لا أحد يستطيع أن يكون مثله الأعلى (سوبر مان)، أو الرجل الخارق القادر على تلك المبالغات التي تروج لها المؤسسة، على العكس من ذلك فالتأسي والاقتداء بالصورة الإنسانية المتوازنة الواقعية التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم ممكن عملياً..
د. أحمد خيري العمري
لا تبالغ الرؤية التقليدية في الغلو المنهي عنه مع الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، بل حدث مع الصحابة أيضاً في أحيان كثيرة.. فالرؤية التقليدي- نظرياً فقط- تنفي العصمة عن الأفراد، حتى عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنها عملياً تمنح ما يقاربها لكل الصحابة، وهي لا تكتفي بمنحهم المنزلة فوق البشرية، لكنها تمنحها أيضاً للفقهاء والأولياء والعلماء.
وهي تبالغ في رسم صورة كاملة، حسب مفهومها، لهؤلاء الفقهاء؛ صورة (تقوية) مبالغ فيها، لإضفاء القداسة والرهبة عليهم وعليها، فهذا يصلي الفجر بوضوء العشاء (كناية عن قيام الليل كله!)، وخادمة ذلك تشهد أنها ما صبت له طعاماً قط ولا فرشت له فرشًاً (كناية عن استمرار صيامه وقيامه)، وهذا كان يصلي 1000 ركعة في اليوم، وآخر دخل مدينة فلم يأكل من طعام أهلها شيئاً، ولم يشرب من شرابهم إلا الماء، خشية أن يخالطه شيء حرام، وآخر لم يكن يداعب أطفاله خشية أن يكتب في صحيفته أنه قد لهى!.. وإلى غير ذلك من الصور التي تمتلئ بها كتب أعمال القلوب، وبالتالي الخطب المنبرية التي هي من الوسائل الأكثر تأثيراً إلى يومناً الحالي..
الرجل الخارق والصورة الصادمة!
والحقيقة أن هذه الصورة تصدم الفرد المسلم العادي في كل عصر (لا في عصرنا الحالي فقط كما نتوهم) فالتأسي بنماذج كهذه يعني عملياً الانفصال عن المجتمع والواقع وموت الأطفال جوعاً!!
إنها صورة (محبطة) لا تبعث على الاقتداء بل الإحباط واليأس، فالمتلقي يعرف سلفاً أنه لن يستطيع بلوغ مرتبة الرجل الخارق (= السوبر مان) في العبادة والزهد، لذلك فهو يكتفي بالاستغفار والتيقن من أن سلفاً كهذا لن يتكرر أبداً، وأن نمط (العبادة) هذا هو الجوهر الذي أصلح الأمة التي لن يصلح آخرها إلا بما صلح عليه أولها، ولما كان هذا النمط هو أقرب إلى المستحيل بالنسبة إلى الفرد العادي، فإن صلاح الأمة وفق هذا التسلسل مؤجل إلى حين مجيء السوبر مان المسلم؛ أي بعبارة أخرى مؤجل إلى الأبد.
وبعيداً عن الصورة المحبطة التي تروج، هناك صورة أخرى مناقضة، لا تستطيع المؤسسة أن تنكرها فتعمل على تجاهلها، عندما تذكر صورة عبادة السلف الصالح المحبطة.
إنها الصورة الواقعية لعبادته عليه أفضل الصلاة والسلام، ينكح النساء ويحبهن، ويضحك حتى تبدو نواجذه، ويداعب الأطفال ويسابقهم، وتروي إحدى زوجاته (عائشة): إنه ما زاد عن إحدى عشرة ركعة في الليلة، بل لقد نهر أحد صحابته عندما أطال في الصلاة: “أفتان أنت يا معاذ؟”، ونهر آخرين قررواً أنهم لن يتزوجوا، ولن يفتروا عن الصلاة، ولن يفطروا أبداً؛ ناهياً إياهم عن أي نوع من الرهبنة والتبتل.
لقد كان إصراره على التمتع بالملذات الحلال نابعاً من فهمه الحيوي للعبادة التي يخرج بها عن الشعيرة والطقس المجرد إلى أسلوب حياة؛ فالحياة العائلية، بأكثر تفاصيلها حميمية، ستصير عبادة ولها أجر..
وكذلك كانت حياة صحابته المقربين، فبينما تقذفنا الرؤية السائدة بنموذج جاهز لرجل خارق يصلي الفجر بوضوء العشاء، فإن سيرة الصحابة تجعل من الصعب إيراد نموذج يمثل لهذا، وبينما (تتحفنا) المؤسسة بذاك الذي لا يداعب الأطفال مخافة أن تسجل في صحيفة سيئاته أنه لهى، فإن سيرة العملاق عمر بن الخطاب تواجهنا بأنه عزل واحداً من عماله عندما بلغه أنه لا يداعب أطفاله! إنها صورة مناقضة تماماً ومختلفة تماماً.
والفرق الجوهري بين الصورتين: أنه لا أحد يستطيع أن يكون مثله الأعلى (سوبر مان)، أو الرجل الخارق القادر على تلك المبالغات التي تروج لها المؤسسة، على العكس من ذلك فالتأسي والاقتداء بالصورة الإنسانية المتوازنة الواقعية التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم ممكن عملياً.. فلا شيء يثير الإحباط في سيرته، ولا شيء يبعث على اليأس.. على العكس: فالتوازن والبساطة والواقعية التي ميزته عليه الصلاة والسلام تجعل منه ومن سنته ومن سيرته قدوة فاعلة وقادرة.. فقط لو أزلنا الغلو والمبالغة في الإطراء الذي لا يحتاجه عليه الصلاة والسلام، فضلاً عن أنه نهي عنه.
اقرأ أيضا:
____________________________
المصدر: بتصرف يسير عن كتاب البوصلة القرآنية، د. أحمد خيري العمري، دار الفكر، دمشق، ط3، 2010