يقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (رواه البخاري ومسلم وغيرهما).. وجه المطابقة بين الحديث وما توصل إليه الطب علميا في إخباره – صلى الله عليه وسلم – بحقيقة ما يحدث في الجسم البشري والذي لم يكشف عنه العلم إلا حديثا في السنوات الأخيرة فهل وصف النبي – صلى الله عليه وسلم – أمرًا لم يكن يعرفه أهل العلم في زمانه؟ أم أن في الأمر تعارض بين السنة والعلوم الطبية الحديثة؟
السنة والعلوم الطبية .. تعارض أم اتفاق؟
لقد كشفت الأبحاث العلمية المكثفة والمتوالية حقائق مذهلة عن تفاعل الجسم البشري عند مواجهة المخاطر كالإصابة بجرح أو مرض وتم اكتشاف الخطوط الدفاعية والاستجابات الوظيفية التي تحدث بالجسم حال إصابة عضو من أعضائه بالمرض أو بالجروح. وتلك الاستجابات تتناسب مع درجة معاناة العضو تناسبا طرديًا؛ فبقدر ما تكون شدة إصابة العضو يكون توجيه طاقات الجسم ووظائفه لمنع استفحال المرض ولتحقيق الشفاء التام, ففي حالة إصابة عضو مثلا تدعو مراكز في المخ الغدة النخامية لإفراز هرموني يدعو باقي الغدد الصماء لتفرز مواد تحفز وتدعو جميع أعضاء الجسم لتوجيه وظائفها لنجدة العضو المشتكي, والجسد تتداعى أعضاؤه بمعنى تتوجه بطاقتها لخدمة العضو المشتكي، فالقلب مثلا يسرع بالنبضات لسرعة تدوير الدم في الوقت الذي تنقبض الأوعية الدموية بالأجزاء الخاملة من الجسم وتتسع الأوعية الدموية المحيطة بالعضو المصاب لكي تحمل له ما يحتاجه من طاقة وأوكسجين وأجسام مضادة وهرمونات وأحماض أمينية بناءة.
وجه الإعجاز:
يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يجب أن يكون عليه حال الأمة المسلمة من تواد وتراحم وتعاطف، فيأمرنا صلى الله عليه وسلم أن نتواد ونتعاطف ونتراحم، ولكي نفقه إلى أي درجة يكون هذا الترابط والتعاطف ضرب لنا – صلى الله عليه وسلم – مثالاً بالجسد الواحد وما يحدث فيه عندما يشتكي عضو من أعضائه، ووصف لنا ما يحدث عند الشكوى من أن الجسم يتداعى كله بالسهر والحمى من أجل هذا العضو، وأن الجسم لا يزال يتداعى حتى تتوقف شكوى ذلك العضو.
والنبي – صلى الله عليه وسلم – بما أوتي من جوامع الكلم وصف لنا ما يحدث في جملة شرطية قصيرة، فعل الشرط فيها اشتكى، وجواب الشرط تداعى.
وجه المطابقة بين الحديث وما توصل إليه الطب علميا في إخباره – صلى الله عليه وسلم – بحقيقة ما يحدث في الجسم البشري والذي لم يكشف عنه العلم إلا حديثا في السنوات الأخيرة فهل وصف النبي – صلى الله عليه وسلم – أمرًا لم يكن يعرفه أهل العلم في زمانه؟
نقول نعم؛ لا في زمانه ولا بعد زمانه – صلى الله عليه وسلم – بقرون، بل لم يعرفونه إلا بعد أكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزمان، كيف؟
كل الناس من قديم كانوا يعرفون أنه إذا أصيب عضو، أصيب سائر الجسد بالحمى، نعم هذا معروف، وبالسهر، كان أيضا معروفًا على ظاهره في بعض الأحوال، وإن كان الظاهر في أحوال أخرى أن المريض يرقد وينام أحيانا حتى يتماثل للشفاء.
ولكن الحديث يخبر بحدوث شكوى للعضو المصاب على الحقيقة لا على المجاز، وبحدوث السهر أولا أيضا على الحقيقة، وبكل ما يحمله معنى السهر الحقيقي، سهر الجسد كله، كما ورد في النص تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ثانيا، تأتي مع السهر وبعد أن يبدأ السهر، والسهر يحدث حتى ولو كان المريض نائما ولو كان في غيبوبة؟! هذا ما نفهمه من ظاهر الحديث.
والجسم يتداعى، والتداعي يكون بمجرد الشكوى، فإن لم توجد شكوى لم يوجد تداعي (إذا اشتكى تداعى).
والتداعي لغة يعني.
- دعا بعضه بعضا.
- تجمع عليه من كل صوب وحدب. كما في قوله – صلى الله عليه وسلم-: يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها (رواه أبو داود).
- تهدم وانهيار كما يقال تداعى البناء أي سقط على بعضه وانهارت جوانبه على نقطة تقع في أوسطه.
فهل حقًاً يشتكي العضو على الحقيقة أم أنه على المجاز؟ وكيف يشتكي العضو بلا لسان؟ وهل كان الناس يفهمون أن الشكوى على الحقيقة؟
إن من يقرأ حقيقة ما كشفه العلم من انطلاق نبضات عصبية حسية من مكان الإصابة والعضو المريض إلى الدماغ وإلى مراكز الحس والتحكم غير الإرادي، وانبعاث مواد كيماوية وهرمونات من العضو المريض، وبمجرد حدوث ما يتهدد أنسجته تخرج أول قطرة دم تنزف أو نسيج يتهتك أو ميكروب يرسل سمومه بين الأنسجة والخلايا، وتذهب هذه المواد إلى مناطق مركزية في المخ والأعضاء الحيوية المتحكمة في عمليات الجسم الحيوية، من يعرف هذه الحقائق لا يستطيع إلا أن يصفها بأنها شكوى على الحقيقة وليست على المجاز، وإلا فما هي الشكوى؟
أليست هي إخبار وإعلام واستغاثة من ضرر ونازلة ألمت بالشاكي؟
أليست توجه للجهة التي يظن أنها تتحكم في مجريات الأمور وتملك من الإمكانات ما تنقذ به الشاكي وترفع عنه ما ألم به ؟
إن الساعد الأيمن مثلا إذا أصيب بالمرض فإنه لا يوجه شكواه إلى الساعد الأيسر أو الرجل اليمنى لأنها لا تملك توجيه وظائف الجسم لمواجهة المرض، وإنما تنطلق النبضات والإشارات والهرمونات إلى المراكز الحيوية في الدماغ، وهي التي تملك توجيه سائر الجسد لإغاثة العضو المشتكي.
وإذا اشتكى العضو تداعى سائر الجسد لشكواه، وهذا ما يحدث فعلا وبجميع معاني التداعي الواردة في لغة العرب.
- فهو يدعو بعضه بعضا، مراكز الإحساس تدعو مراكز اليقظة، والتحكم في منطقة ما تحت المهاد التي تدعو بدورها الغدة النخامية لإفراز هرموناتها والتي بدورها تدعو باقي الغدد الصماء لإفراز هرموناتها التي تحفز وتدعو جميع أعضاء الجسم لتوجيه وظائفها لنجدة العضو المشتكي، وعلى النحو الذي سبق وصفه في أول البحث.
- وهو يتداعى بمعنى يتوجه بطاقاته لخدمة العضو المشتكي، فالقلب مثلا يسرع بالانقباض والانبساط ليسرع بتدوير الدم، في الوقت الذي تنقبض الأوعية الدموية بالأجزاء الخاملة من الجسم، وتتسع الأوعية الدموية المحيطة بالعضو المصاب لكي تحمل له ما يحتاجه من طاقة، وأكسجين، وأجسام مضادة، وهرمونات، وأحماض أمينية بناءة، هي خلاصة أعضاء الجسم المختلفة في الكبد والغدد الصماء والعضلات، كما أرسلت الدهون المختزنة كلها لإمداد العضو المريض بما يحتاجه لمقاومة المرض والالتئام.
- وهو يتداعى بمعنى يتهدم وينهار فعلا، ويبدأ بهدم مخزون الدهن ولحم العضلات (البروتينات) لكي يعطي من نفسه لمصلحة العضو المصاب ما يحتاجه وما ينقصه، ويظل الجسم متوجها بعملية الهدم هذه إلى أن تتم السيطرة على المرض ويتم التئام الأنسجة المريضة أو المجروحة، ثم بعد ذلك يعود الجسم لبناء نفسه.
والهدم يستمر إلى درجة تتناسب مع قسوة المرض، وقد حسب العلماء مقدار الهدم في كل حالة ووجدوا تناسبا بين مقدار ما يفقده الجسم من وزنه وشدة إصابة العضو ومرضه ووضعت لذلك جداول في كتب الطب، واكتشفوا أن عملية الهدم هذه ربما وصلت إلى درجة انهيار الجسم انهيارا تاما، وتهدمه إلى أقل من نصف وزنه في حالات الإصابات الشديدة حتى لربما انتهى الأمر بالوفاة في حالة تعرف ب (الحالة الانهدامية المفرطة) HYPER CATABOLIC STATE.
والسهر موجود بمعناه، حتى لو نامت عين المريض أو تاه عن وعيه، فإن جميع أجهزة الجسم ودورته الدموية وتفاعلاته الاستقلابية، وجهازه التنفسي، والكلى والقلب تكون في حالة السهر الدائم أثناء المرض ونعني بذلك أنها تكون في حالة نشاط مساوية لحالة اليقظة، ومستمرة عليها طوال الليل والنهار إلى أن تزول شكوى العضو المريض.
والحمى قد رأينا في الجانب العلمي من البحث منشأها وانبعاثها وبعض فوائدها، وأنها صورة من صور تداعي الجسد لشكوى العضو (بالسهر والحمى).
وما كشف العلم الحديث حقيقة واحدة تعارض ظاهر النص أو باطنه، أو تسير في نسق بعيد عنه، بل كان النص وصفا دقيقا جامعًا شاملًا لحقيقة ما يحدث، بل ما قد يفهمه الجاهل بحقيقة الأمر مجازًا أو كناية وضحه العلم الحديث على أنه حقيقة واقعة لا تحتاج إلى تأويل.
فهو يخبرنا – صلى الله عليه وسلم – بالكيفية التي ينبغي أن يكون عليها المسلمون في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم، فمن أراد أن يفقه إلى أي مدى يطلب النبي – صلى الله عليه وسلم – من المسلمين أن يتوادوا ويتعاطفوا ويتراحموا فعليه أن يسأل علماء الطب والجسم البشري وأن يبحث وينظر كيف يفعل الجسد الواحد، وبمقدار ما يعلم من حقيقة تفاعل الجسم البشري ويتأمل فيها بمقدار ما يفقه مقصد الشريعة وأمرها ومقدار التعاطف والتراحم بين المسلمين.
ومن العجيب أن يستخدم العلماء الغربيون اسمًا للجهاز العصبي الذي يتفاعل في حال تعرض الجسم للخطر والمرض؛ اسما بلغتهم وصفوا به حقيقة ما يفعله، هذا النظام والجهاز هو (SYMPATHETIC)، فكانت ترجمته الحرفية: المتواد، المتعاطف، المتراحم، وهو عين ما سماه الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- وليس في لغة العرب ألفاظ أخرى تصف حقيقة ما يؤديه هذا الجهاز في الجسم البشري. وليست في لغة العرب ألفاظ أخرى تصلح لترجمة الاسم الذي أطلقه علماء الغرب على هذا النظام الذي اشتقوا له اسما يصف وظيفته الحقيقية من واقع ما شاهدوه وتحققوا منه، فكان ما وصفوه مطابقا لما وصفه النبي – صلى الله عليه وسلم – وما سموه مترجمًا بالألفاظ التي ذكرها الحديث.
_______________________________
المصدر: موقع الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة