القرآن الكريم هو المنهج النوراني الكامل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد…
(مقتطف من المقال)
خالد روشه
كثيرون هم الذين كتبوا حول القرآن الكريم، وكثيرون هم اللذين بينوا ما استطاعوا من جوانب عظمته، وآثار نورانيته التي لا يحدها حديث، ولا يجمعها كلام، ولكننا ههنا نركز على جانب واحد فقط من آثار القرآن الكريم، هو جانب أثر الآيات العظيمات الكريمات في راحة البال، وهدوء النفس، وطمأنينة القلب، وسكينة الروح.
إن القرآن الكريم شفاء من كل داء، شفاء فعلي عملي، كما قال سبحانه: “وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ” (الإسراء:82)، وأكثر ما تكون الأمراض في هذا العصر هي الأمراض النفسية، وأكثرها أمراض الاكتئاب الناتجة عن كثرة الهموم والأحزان، فتثقل النفس، وتوهن القلب وتقعد الجوارح، فلا يزال المرض بالمؤمن حتى يصير عاجزًا كسلانًا، مهمومًا، محزونًا، لا يقدم شيئًا إيجابيًا لنفسه ولا لأسرته ولا لأمته.
وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأمراض، وكان كثيرًا ما يستعيذ منها، كما أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اني اعوذ بك من الهم والحزن و أعوذ بك من العجز والكسل، واعوذ بك من الجبن والبخل، واعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال).
إنها استعاذة الداعي إلى السلوك الإيجابي نحو النفس والمجتمع، واستعاذة المستنكر لحالة القعود السلبية التي ربما يقع فيها البعض نتيجة همومهم وأحزانهم.
القرآن الكريم هو المنهج النوراني الكامل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، قد بين في كثير من آياته أن المستمسك به، التالي لآياته، الموقن بها، المحب لها، الواثق في وعودها، لا شك سيعبر لحظات الضعف ولا شك سيكسر آلام الهم، إن علاج القرآن في النفوس يثبت في الأساس العقيدة الإيمانية في نفوس المؤمنين، ويؤكد على فهم المؤمنين لعقيدتهم في الله سبحانه، وفي وعوده واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وكان ذلك عبر نقاط:
أولًا: بث الطمأنينة في القلب؛ “أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” (الرعد:28)، تأكيد وبيان أن ذكر الله تسكن معه القلوب، فتطمئن لموعود الله، فتأمن من الخوف ومن الفزع، فلا خوف إلا من الله، ولا رهبة إلا من عذابه، فتستقر الطمأنينة فيه إذ لا حول ولا قوة إلا بالله.
وذكر الله يجلي كل خوف، ويذهب كل ضعف، فتجد القلب مطمئناً ليومه، راضيًا بأمسه، مستبشرًا بغده، إذ اليوم متوكل على الله، وأمس راض بقدر الله فيه، وغدًا مستبشر باليسر بعد العسر.
ثانياً: السكينة وسط المخاوف؛ فكتاب الله سبحانه يبث السكينة في النفس، ولئن كانت الطمأنينة تخص ذات القلب، فالسكينة تخص الحوادث المارة على النفس، فعلّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا مرت بنا مصيبة أن نذكر الله ونتوكل عليه، فقال: (ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: قدر الله وما شاء فعل، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها، إلا أجره الله فيها وأخلفه خيرًا منها).
وفي كتاب الله تثبت في الحوادث والمصائب بالإنابة إلى الله والرجوع إليه سبحانه، قال سبحانه: “الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ” (البقرة:156-157).
ثالثًا: الثقة في الله سبحانه نوع من المشاعر يبثه ذلك الدين في المؤمنين، يقوى به القلب ويثبت به النفس، فتري القلب تتضاعف قوته، وترى النفس قادرة على خوض غمار المصاعب.
يقول شيخ الإسلام بن تيمية: لا حول ولا قوة إلا بالله لها أثر عجيب في تقوية القلب والجسد، والله سبحانه وتعالى في كتابه يقول: “قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّـهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّـهِ ۗ وَاللَّـهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ” (آل عمران:173-174)، وقد أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يثق في موعود الله عز وجل ويوقن بذلك وأن ذلك كافيه وحسبه ذلك، فقال: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّـهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ” (الأنفال:64).
رابعًا: الأمر بأخذ الأسباب؛ فالقرآن الكريم يعلمنا أن راحة البال ينبغي أن تبنى على عمل: “وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” (الزخرف:72)، لا على تواكل أو على قعود، أو انطواء، لكنها مبنية بالأساس على الثقة بالله كما اسلفنا وكذلك بعد الأخذ بالأسباب التي أمر الله بها. قال سبحانه في كتابه حاكيًا عن ذي القرنين: “ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا” (الكهف:92)، وقال في جهاد المشركين: “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ” (الأنفال:60)، وقال في موقف مريم الضعيفة بينما هي تضع مولودها: “وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ” (مريم:25)، وقال في شأن موسى عليه السلام وهو بصدد معجزة غير مسبوقة: “اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا” (البقرة:60).
ولكن الله عز وجل يعلمنا أيضًا أنه ليس إعداد القوة ولا رباط الخيل ولا هز جذوع النخل ولا ضرب الحجارة بالعصا، ولا غير ذلك وحده كاف للمؤمنين، بل كلها أسباب تفتقر إلى قوة العظيم القادر سبحانه، فيعلمنا القرآن أن الله إذا علم من عبده صدق اللجوء إليه واتخاذ الأسباب مع توكله الكامل عليه وبذل جهده القادر عليه وصبره ويقينه، أنه لا شك ناصره، ولذلك بشر الصالحين بأعظم بشرى فقال سبحانه: “إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ” (غافر:51).
خامسًا: سمو الهدف؛ ونبل المقصد فآيات القرآن الكريم تعالج هموم النفوس بطريقة مدهشة، عن طريق تذكير المؤمن بسمو هدفه ونبل قضيته، فكلما شعر المؤمن بعظمة ما هو بصدده، كلما هانت عليه الأحزان وصغرت أمامه العقبات. وانظر إلى القرآن الكريم وهو يضرب لنا ذلك المثل في مؤمن سورة يس إذ دافع عن كلمة الحق ولم يبال بالأذي لأنه ينظر إلى سمو قضيته وعلو هدفه، فاقرأ قوله تعالى: “وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ. وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ. إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ. إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ. قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ” (يس:20-27).
إن نبل غايته أنساه البغضاء وأنساه الثأر حتى إنه لما رأى موعود ربه أحب لو أن الذين آذوه قد رأوا الحق وفهموا الصواب وتبينوا صدق المسيرة. إنها طرائق علاجية قد بثت في كتاب الله العظيم وهي غيض من فيض، ونقطة في بحر شفاء من القرآن الكريم للنفوس والقلوب.
المصدر: بتصرف يسير عن موقع طريق الإسلام