هل لاحظت أن أمثلة النور في القرآن الكريم يأتي ذكرها دائماً بصيغة المفرد، بينا تأتي الظلمات بالجمع؟ نعم، فطريق الهداية واحد و المهلكات والخبائث كثيرة…
أ.د. عمرو شريف
لا شك أن مَثَل النور من أكثر الأمثال استخداماً في القرآن الكريم، وقد استخدم للإشارة إلى عوالم الوجود كلها (مثل باقي الأمثال) وللدلالة على عدة مستويات، أهمها:
-
نور الله عز وجل
“اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ “ (النور:35)
تشير آية النور إلى أن الله عز وجل هو نور السماوات والأرض، أي “مُظهرها”، أوجد الوجود وأمده بالدوام والبقاء، ثم تُشَبِّه الآية نور الله (عالم الغيب) بنور مصباح المشكاة (عالم الشهادة).
وإذا انتقلنا بالآية إلى (عالم المعنى)، وجدنا أن نور الله عز وجل (ويشير هنا إلى الفطرة السليمة) يضيء قلب الإنسان بالإيمان، حتى وإن لم تصله الديانات (ولو لم تمسسه نار)، وتكتمل هداية الله عز وجل للبشر باجتماع نور الديانات مع نور الفطرة (نور على نور).
ولا شك أن نور الله عز وجل هو الذي يمد الجنة وأهلها (عالم الغيب) بما فيها من نعيم خالد باقٍ، نعيم مادي ونعيم الرضا والأمن والطمأنينة.
وإذا وصلنا إلى عالم الأسماء والصفات ( ومن ورائه الذات الإلهية)، وجدنا أن اسم الله عز وجل “النور” هو الذي يمد عوالم الوجود (الشهادة – المعنى – الغيب) بما أشرنا إليه في الفقرات السابقة.
-
نور الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم
“يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا” (الأحزاب:45،46).
تضرب الآية المثل بالسراج المنير للإشارة إلى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم. وإذا كان السراج في عالم الشهادة يبدد ما يحيطنا من ظلمات؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم ينير القلوب (عالم المعاني) ويبدد ما فيها من جهل وغفلة.
بل يحمل سراجنا المنير.. البُشرى للمؤمنين بالفضل الإلهي الكبير الذي لا يكتمل إلا في الجنة (عالم الغيب)، ولا يقتصر دور رسولنا على البُشرى، بل هو الذي يقودنا بمنهج الله عز وجل إلى الجنة، ويشفع فينا بما أذن له الله عز وجل من شفاعة.
ولا شك أن السراج المنير تستضيء منه سُرُج أخرى، تصبح بمثابة الهداة للناس في الظلمات، وليست هذه السُرُج إلا العلماء والصالحين.
-
نور القرآن الكريم
“وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (الأعراف:157)، تستعير الآية الشريفة دور النور من عالم الشهادة، وتضفيه على القرآن الكريم الذي يبدد ظلمات القلوب (عالم المعاني).
ولا شك أن اتباع منهج القرآن الكريم هو الذي يبدد ما يمكن أن يكتنفنا من ظلمات في الحياة الآخرة (عالم الغيب)، حين ينجو بنا من النار، ويقودنا إلى الجنة بإذن الله عز وجل.
-
نور العلماء والصالحين
“وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُوم لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَات الْبَرّ وَالْبَحْر قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ“ (الأنعام:97).
وكما أن اتباع النجوم هو دليل الهداية في سفر الصحراء وسفر البحر(عالم الشهادة)، فإن اتباع العلماء والصالحين هو دليل الهداية لسفر المؤمن في طريق الله عز وجل (عالم المعنى)، ومن ثم فالتعلم منهم هو دليلنا في الطريق إلى الجنة (عالم الغيب).
-
نور الهدايـــــة
“الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ …” (الأنعام:1)
“هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا” (الأحزاب:43).
صيغ أمثلة النور في القرآن
تكررت كثيراً في القرآن الكريم الإشارة “بالنور” إلى الهداية وما يُحصِّلها من أعمال صالحة، وكذلك الإشارة إلى الضلال وما يقود إليه من مهلكات وخبائث “بالظلمات”.
هل لاحظت أن “النور” يأتي ذكره في القرآن الكريم دائماً بصيغة المفرد، بينا تأتي الظلمات بالجمع؟ نعم، فطريق الهداية واحد و المهلكات والخبائث كثيرة.
ولإظهار تأثير النور في هداية القلوب يضعنا القرآن الكريم في صورة مقابلة مستخدماً أسلوب التمثيل أيضاً: “اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ…” (البقرة:257).
وبأسلوب فريد يطرح القرآن الكريم مثالاً يفصل به مثال الظلمات:
“مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ” (البقرة:17). إنه حال المنافقين.
أناس دخلوا في الإسلام عند مَقْدِم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أن عرفوا الحق من الباطل (أضاءت ما حوله)، ثم غلبتهم نفوسهم الأمارة بالسوء، فكانوا كمن ذهب نور الهداية من قلوبهم، فرجعا إلى ظلمة كفرهم.
لقد أضاء نور الرسول صلى الله عليه وسلم قلوبهم بالنور، ثم بنفاقهم انطفأ ذلك النور فوقعوا في ضلال كبير.
كذلك استخدم القرآن الكريم، كمَثَل هيئة أخرى للنور، وهي “البرق”، ذلك أنه لافت للنظر وغني بالدلالات. فللبرق وجهان، فهو من تجليات الجمال وأيضاً من تجليات الجلال.
فجمال البرق تلمسه في قوله عز وجل:
“كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا…“(البقرة:20)؛ فالبرق باعتباره نوراً، يضيء عالم الشهادة، ويضيء القلوب (عالم المعنى) ويضيء مآل المؤمن (عالم الغيب).
وجوانب الجلال في البرق، نلمسها في قوله تعالى:
“هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ…” (الرعد:12)؛ فالبرق من الصواعق التي تخيف المسافرين (جلال)، وفي الوقت نفسه تبشرهم بالمطر المنتظر الذي يطمعون فيه (جمال). ويقابل هذه الصورة في عالم المعنى القلوب الوجلة التي تنتظر طمأنينة الإيمان.
كذلك يستحضر ذكر البرق ما يكتنف المرور السريع على الصراط يوم الحساب من جمال وجلال (عالم الغيب).
وللبرق أيضاً دلالات أخرى في عالمي المعنى والغيب. فهو إشارة إلى الإلهامات والواردات التي تغمر قلوب العارفين من العوالم العلوية، فتمدهم بومضات من العلوم اللدنية.
اللهم امدد قلوبنا بفيض من المعارف اللدنية التي تعرج بنا من نور عالم الشهادة، إلى الله عز وجل نور السموات والأرض.
____________________________________
المصدر: د. عمرو شريف، الوجود رسالة توحيد، القاهرة، نيوبوك للنشر والتوزيع، ط1، 2015