من جديد: الإعجاز العلمي.. في مرمى السهام (2-2)

نهال محمود مهدي*

مصحف

هل يمكن اعتبار القرآن الكريم كتاب علوم تطبيقية وإنسانية وتجريبية بجانب كونه كتاب عقيدة وهداية باعتبار مبدأ شمولية القرآن؟

جدلية عميقة تحيط بقضية الإعجاز العلمي وأسئلة من قبيل: هل باب الإعجاز العلمي –في القرآن والسنة- مفتوح على مصراعيه أم أن هناك ضوابط تحكمه، وتحميه من هجمات المشككين؟، ما الوضع عند تغير إحدى الفرضيات العلمية بعد إثباتها للكتاب أو السنة؟، وهل يمكن اعتبار القرآن الكريم كتاب علوم تطبيقية وإنسانية وتجريبية بجانب كونه كتاب عقيدة وهداية باعتبار مبدأ شمولية القرآن؟… أسئلة عديدة يطرحها الباحثون عن الحقيقة والمشككون فيها على حد سواء كل بحسب هدفه ومرماه.

الإجابة عن الاستفهامات السابق ذكرها حملت مجموعة من الضوابط قدمها العلماء في الجزء الأول، والآن.. أحاول تقديم بقية تلك الضوابط أملا في أن تساعد على إنهاء الخلاف الفكري بين المؤيدين لموضوع التفسير العلمي والمعارضين له؛ لأن جوهر الخلاف بينهم يرجع سببه إلى تلك المظاهر الارتجالية التي لا يصدر أصحابها عن منهج صحيح.

وتلك الضوابط -بحسب الدكتور/ عبد الله المصلح- هي:

1- ثبوت النص وصحته إن كان حديثا، لتواتر القرآن دون الحديث.

2- ثبوت الحقيقة العلمية ثبوتا قاطعا، وتوثيق ذلك علميا متجاوزة مرحلة الفرض والنظرية إلى القانون العلمي.

3- وجود الإشارة إلى الحقيقة العلمية في النص القرآني أو الحديثي بشكل واضح لا مرية فيه.

فإذا تم ذلك أمكنت دراسة القضية لاستخراج وجه الإعجاز.

ويجب في أثناء تلك الدراسة مراعاة الضوابط التالية:

1- جمع النصوص القرآنية أو الحديثية المتعلقة بالموضوع، ورد بعضها إلى بعض لتخرج بنتيجة صحيحة لا يعارضها شيء من تلك النصوص، بل يؤيدها.

2- جمع القراءات الصحيحة المتعلقة بالموضوع إن وجدت، وكذلك روايات الحديث بألفاظها المختلفة.

3- معرفة ما يتعلق بالموضوع من سبب نزول ونسخ، وهل يوجد شيء من ذلك أو لا؟

4- محاولة فهم النص الواقع تحت الدراسة على وفق فهوم العرب إبان نزول الوحي، وذلك لتغير دلالات الألفاظ حسب مرور الوقت، ولهذا يقتضي الأمر الإلمام  بمسائل تعين على فهم النص والتمكن من تقديم معنى على آخر، وهي كالآتي:

أ- إن النص مقدم على الظاهر، والظاهر مقدم على المؤول.

ب‌- إن المنطوق مقدم على المفهوم، وإن المفاهيم بعضها مقدم على الآخر كذلك.

ت‌- أن يخضع في تناوله للنص لقاعدة: العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، وأن العموم مقدم على الخصوص، والإطلاق مقدم على التقييد، والإفراد على الاشتراك، والتأصيل على الزيادة، والترتيب على التقديم والتأخير، والتأسيس على التأكيد، والبقاء على النسخ، والحقيقة الشرعية على العرفية، والعرفية على اللغوية.

ث‌- مراعاة السياق والسباق وعدم اجتزاء النص عما قبله وما بعده .

ج‌- مراعاة قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

ح‌- معرفة معاني الحروف، وعدم تفسير حرف أو جملة على معنى لا يقتضيه الوضع العربي.

خ‌- مراعاة أوجه الإعراب، وعدم القول بتوجيه لا يسانده إعراب صحيح أو قرينة أخرى.

د‌- أن المشترك اللفظي يمكن حمله على واحد من معانيه دون نفي الآخر أو القطع بأن هذا الصواب وحده ما لم تكن هناك قرينة راجحة.

5- إظهار وجه الإعجاز: فإذا تم ذلك لم يبق على الباحث سوى أن يظهر الربط بين الحقيقة الشرعية والعلمية بأسلوب واضح مختصر.

6- أن هناك أمورا من قبيل المتشابه لا مجال لفهمها أو تناولها بالبحث.

7- عدم البحث في الأمور الغيبية، كموعد قيام الساعة، والجنة والنار.

8- عدم الاعتماد على الإسرائيليات أو الروايات الضعيفة.

تفسير القرآن

من الضروري الاعتماد على المصادر المعتبرة في تفسير كتاب الله والحديث النبوي الشريف دون غيرها

9- الاعتماد على المصادر المعتبرة في ذلك دون غيرها، كأمهات التفسير والحديث، مع الإشارة إلى جهود الدراسات السابقة إن وجدت.

10- الابتعاد عن تسفيه آراء السلف من علماء التفسير والحديث ورميهم بالجهل؛ لأن القرآن والسنة خطاب للبشرية في كل عصر، والكل يفهم منها بقدر ما يفتح الله عليه، وبحسب ما يبذله من جهد وما هو متوفر لديه من وسائل، ولن يحيط بفهم الوحي أهل عصر إلى قيام الساعة، فلا مجال للتسفيه والتجهيل، وإنما هي الاستفادة والتكميل والدعاء لمن تقدم، قال تعالى: “وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ” (الحشر:10).

11- ينبغي أن تحصر الدراسة فيما تمكن القدرة عليه، فالأفراد يمكن أن يقصروا بحوثهم فيما يتعلق بالاكتشافات فيما هو خاضع لتجاربهم المخبرية، ليصلوا من خلال ذلك إلى الحق، وللجامعات والمراكز والدول مجالات أكثر وأكبر.

12- ينبغي أن يعلم الباحث في هذا المجال أن كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم صدق وحق، ولا يمكن بحال أن يخالف حقيقة علمية؛ لأن منزل القرآن هو الخالق العالم بأسرار الكائنات، قال تعالى: “أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ” (الملك:14)، ومعرفة ذلك تقتضي منا التريث وعدم تحميل النص ما لا يحتمله من أجل أن يوافق ما نظنه حقيقة، فإذا لم يتيسر ذلك بشكل واضح فعلينا أن نتوقف دون نفي أو إثبات، ونبحث عن موضوع آخر، والزمن كفيل بانكشاف الحق بعد ذلك.

13- على الباحث أن يتحرى الصدق والصواب وأن يخلص نيته لله في تبيين الحق للناس من أجل هدايتهم، وأن يعلم خطورة ما يتناوله، ويعبر عنه، فهو عندما يقول: هذا المعنى هو الذي يشير إليه قوله تعالى: فهو يفسر كلام رب العالمين، لذا يجب عليه أن يتذكر دائما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) رواه الترمذي.

14- ينبغي أن يتصف الباحث كذلك بالصبر، مع توفر الكفاءة العلمية المكتسبة، حتى يميز الحق من الباطل، ويقبله ويلتزم بالموضوعية، ومعناها هنا: حصر المعلومات ودراستها من غير تحيز لفكرة أو رأي سابق، مع التقيد بالمنهج العلمي في التوثيق والاقتباس والإحالات” انتهى.

شمولية كتاب الله

مصحف

على عكس ما يظنه الكثيرون من طغيان منهج نسبة كل مكتشفات العلم للكتاب والسنة بلا روية أو تدقيق، فكبار ممن تصدو لذلك الأمر كانت آراؤهم في معظمها تتفق مع فكر التدقيق ووضع الضوابط.

وعلى عكس ما يظنه الكثيرون من طغيان منهج نسبة كل مكتشفات العلم للكتاب والسنة بلا روية أو تدقيق على اعتبار أن القرآن كتاب إرشادي شامل لكل جوانب الحياة.. فكبار ممن تصدو لذلك الأمر كانت آراؤهم في معظمها مخالفة لذلك المنهج.

يقول دكتور زغلول النجار -أحد كبار علماء الجيولوجيا- والمهتمين بالإعجاز العلمي في القرآن: “الحقيقة المسلمة أن القرآن لم يأت لكي ينشر بين الناس القوانين العلمية ومعادلاتها‏,‏ ولا جداول المواد وخصائصها‏,‏ ولا قوائم بأسماء الكائنات وصفاتها‏,‏ وانما هو في الأصل كتاب هداية‏، كتاب عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات‏، وهي ركائز الدين التي لا يستطيع الإنسان أن يضع لنفسه فيها ضوابط صحيحة‏، والقرآن العظيم حين يلفت نظر الانسان الي مختلف مظاهر هذا الوجود إنما يعرض لذلك من قبيل الاستدلال علي قدرة الخالق العظيم وعلمه وحكمته وتدبيره ومن قبيل إقامة الحجة البينة علي الجاحدين من الكافرين والمشركين‏، ومن قبيل التأكيد علي إحاطة القدرة الإلهية بالكون وبكل ما فيه وعلي حاجة الخلق في كل لحظة من لحظات الوجود الي رحمة ذلك الخالق العظيم‏.‏[i]

أما الأستاذ سيد قطب فيذهب في كتابه الأشهر (في ظلال القرآن) لأن “القرآن ليس كتاب نظريات علمية و لم يجئ ليكون علماً تجريبياً كذلك. إنما هو منهج للحياة كلها. منهج قويم لتقويم العقل ليعمل و ينطلق في حدوده. ولتقويم المجتمع ليسمح للعقل بالعمل والانطلاق. دون أن يدخل في جزئيات وتفصيليات علمية بحتة. فهذا متروك للعقل بعد تقويمه وإطلاق سراحه.” إذ يكتفي بالإشارة إلى القضايا الكونية، لأن تعريف الناس بمباحث العلوم الكونية ليس من مقاصد الشريعة، بل إن غايتها أن تجعلهم يتوصَّلوا إلى هذه المعارف بعقولهم واجتهاداتهم، فإذا اهتدَوُا إليها وقد علموا أن القرآن سبقهم في الإشارة إليها، والحضِّ عليها، استدلُّوا على أن القرآن الكريم ليس من كلام البشر، وبذلك يفتح أمامهم باب الهداية والإيمان بالله تعالى وبهذا الدِّين الخالد. وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم أشارت إلى بعض القضايا الكونية، فجاء العلم الحديث مصدِّقاً لها، ووقف خاشعاً أمام إعجازها الَّذي أَخْبَر عنه النبي الأمِّي محمَّد صلى الله عليه وسلم ـ قبل أربعة عشر قرناً ـ من خلال كتابٍ مُعجز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه تنزيل من الله العليم الحكيم.[ii]

إذاً لم يقدم القرآن بنصوصه كمادة إرشادية في كل العلوم والفنون.. لكنه كتاب عظيم ملهِمٌ للفكر والتأمل وفيه متسع عظيم للاجتهاد في كل عصر ومكان.. تورد الدكتورة سعاد يلدرم في أحد أبحاثها قول الشيخ الغزالي –رحمه الله-  بعد أن ساق الأدلة علي جواز فهم القرآن بالرأي‏ -أي بالاجتهاد‏-  تورد قوله: “فهذه الأمور تدل علي أن في فهم معاني القرآن مجالا رحبا‏، ومتسعا بالغا‏،‏ وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس منتهي الادراك فيه”، متبعة ذلك بتحليل عالم آخر: ” نحن لا نفسر نهائياً الآيات المذكورة بالمكتشفات المشار إليها، ولكننا نشاهد التطابق المدهش بين النص القرآني وبين المكتشفات العلمية الناتجة عن بحوث المتخصصين المتلاحقة خلال القرون الكثيرة “وهذا لا يمكن أن يكون صدفة، بل لابد من أن تكون معجزة”[iii].

كلمة أخيرة

قد يختلف المفسرون في تبيان معاني الآيات الكريمة أو الأحاديث الشريفة، قد يختل منهم المؤشر أحيانا إذا حاولوا نسبتها قسرا للعلم ومكتشفاته، ربما يقدم العالم تفسيرا بحسب معطيات زمانه وحدود إدراكه وتصوره، قد يخطئ.. نعم قد يخطأ هو في كل ما سبق.. لكن كتاب الله منزه عن الخطأ.. العيب مؤكد في التحليل والاستنتاج والاستنباط لا في الأصل الكريم للآيات أو الأحاديث.

فإن كنت مؤمنا فأنت تقدر كلماتي وتثق فيها، وإن كنت باحثا أمينا عن الحقيقة فبين يديك بعضا من معلومات قد ترشدك لها، أو تفتح لك طريقا للمزيد من البحث والاطلاع، أما إن كنت مشككا فلك أن تنتظر حتى تصل نهاية المطاف بعد أن تضع حروب كل مكتشف علمي جديد –أشارت إليه آية أو حديث- أوزارها ويستقر العلم على اليقين الثابت الذي لا شك فيه، ولك الحق وقتها في الإيمان به أو إنكاره “وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ..” (الكهف:29).. فهذا هو صحيح الإسلام.

الهامش:

  • من مقالات د. النجار المنشورة في جريدة الأهرام المصرية في الفترة من مايو 2001 الي يونيو 2003.
  • القرآن منهاج حياة، غازي صبحي آق بيق، الفصل الرابع: الإعجاز العلمي في القرآن، للاطلاع على النسخة الكاملة للكتاب http://iqraa.com/ar/newsdetails.aspx?newsid=50a103a115b101c115d5
  • جامعة الإيمان، تأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، مستندات التوفيق بين النصوص القرآنية وبين النتائج العلمية الصحيحة، سعاد يلدرم، رئيس قسم التفسير -جامعة أتاتورك- تركيا، للاطلاع على البحث كاملا. http://www.jameataleman.org/main/articles.aspx?article_no=1158

___________________________________

باحثة وأكاديمية مصرية

مواضيع ذات صلة