القصة القرآنية.. روعة الإعجاز في دقة الإيجاز! (الجزء الأول)

جاءت الآية الخامسة في السورة مبينة الحكمة من ذكر القصة القرآنية المتعلقة بنبي الله موسى عليه السلام والعبرة من الواقعة، وفيها تشجيع للمؤمنين وبشرى للمستضعفين ووعد لهم بالتمكين في الأرض وتحذير وتخويف للمتكبرين والظالمين…

محمد فاروق النبهان

فألقيه في اليم

امتثلت أم موسى للأمر.. وصدقت البشرى.. والتقطه آل فرعون.. وتركت القلوب بأمر الله.. وارتفع صوت امرأة فرعون.. لتكتمل أحداث القصة القرآنية المتعلقة بنبي الله موسى عليه السلام.

الحكمة في القصة القرآنية جاءت في كتاب الله تعالى نفسه واضحة في بداية سورة القصص: “طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ…” (القصص: 1- 33)، ثم يأتي بعد ذلك البيان، لماذا اختار القرآن قصة فرعون.
والجواب واضح في البداية حيث لخصت الآية الرابعة من سورة القصص القصة كاملة، قال تعالى: “إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ” (القصص: 4).
وقبل أن تبدأ قصة فرعون وموسى التي جاءت مفصلة في سورة القصص جاءت الآية الخامسة في السورة مبينة الحكمة من ذكر القصة في القرآن والعبرة من الواقعة، وفيها تشجيع للمؤمنين وبشرى للمستضعفين ووعد لهم بالتمكين في الأرض وتحذير وتخويف للمتكبرين والظالمين.
قال تعالى: “وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُون” (القصص:5-6).

ثم تبتدئ القصة:

– “وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ…
– “…فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ…
– “…وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي…
– “…إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ” (القصص:7)

وفي هذه الآية القصة كلها.. إيحاء من الله إلى أم موسى بأن ترضعه، فإذا خافت عليه أُمرت بأن تلقيه في اليَمّ، وبُشرت في نفس الوقت بأنه سيُرد إليها، وأنه سيكون من المرسلين، ولولا تلك البشرى لما استطاعت أن ترميه في اليم، وكيف يمكن لأم أن ترمي وليدها في اليم، وهي تعرف جيدا أنها تلقيه إلى الموت، وبالرغم من البشرى، فقد خافت عليه وحزنت، ومن حقها أن تخاف وتحزن.. فالإنسان محكوم بغرائز وطبائع ومشاعر..
وامتثلت أم موسى للأمر.. وصدقت البشرى.. والتقطه آل فرعون.. وتركت القلوب بأمر الله.. وارتفع صوت امرأة فرعون: “…لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً” (القصص:9).
، ووقفت أم موسى خائفة فزعة تترقب المشهد أمامها.. وتخشى أن يفتضح أمرها، وتتدخل العناية الإلهية: “إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها…” (القصص:10)
ويتحقق الوعد الإلهي الأول الذي كان صداه يتردد فوق المكان فيحكم قبضته على الأحداث، وتنصاع القلوب صاغرة لذلك النداء الرباني: “…إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ…” (القصص:7).
وتقف أم موسى فرحة مستبشرة مطمئنة وهي تتسلم ابنها: “فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ…” (القصص:13).

القصة القرآنية.. حكمة ربانية للإنسان في كل زمان

وهنا تبرز الحكمة الربانية والتوجيه الإلهي ويتوجه الخطاب إلى (محمد) وإلى أصحابه وإلى كل المؤمنين، لكي يعلموا جيدا أن وعد الله حق والخطاب لأم موسى: “وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ” (القصص:13).
ولكن المراد بهذا الخطاب كل مؤمن لكي يطمئن إلى وعد الله، فلا يخاف ولا يحزن، والعاقبة للمتقين، وختم القرآن هذه الآية التعليمية والتوجيهية بقوله: “وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ“.

وتوقف المشهد الرابع.. انتهى بانتصار الحق، عاد الوليد إلى أمه بعد عاصفة من الأحداث المتتابعة المثيرة، المليئة بالمفاجئات والمواقف، ويتحرك الأبطال في حركة منتظمة دقيقة وكأنهم دمى صغيرة في يد قادرة تحركهم.. في آيات معدودات وكلمات مختارات معبرات، نعيش أحداثا جسيمة كبيرة مثيرة غامضة..
وعد الله هو المنطلق “إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ” وكل شيء بعد ذلك يتحرك لكي يتحقق وعد الله..

وما أروع هذا التصوير لعظمة الأمر الإلهي ولعظمة الكون وهو يتحرك في حركة دقيقة محكمة لتنفيذ أمر الله، ولا يعلم أحد من شخصيات القصة أنه يتحرك بأمر الله، ولما يراد له، ويظن كل واحد أنه يتحرك بإرادته المطلقة فإذا هم يتحركون بإرادة الخالق وحده ،”فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً…” (القصص:8)، وبين الأحداث المتسارعة تبرز الحكمة من خلال كلمات موجزات معبرات: “…إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ” (القصص:8).

وتهدأ الأنفاس بعد تسارع، كانت تواكب الأحداث المثيرة بدهشة ورهبة وخوف، وأُسدل الستار على أم موسى وهي تحتضن طفلها بعد أن عاد إليها وقد قُرّت عينها به، وزال عنها الحزن واطمأنت بوعد الله، وآل فرعون وهم فرحون مبتهجون في هذا الولد الذي طمعوا في أن يكون قرة عين لهم عسى أن ينفعهم أو يتخذونه ولدا..
وفجأة ترتفع الستارة من جديد على شاب قوي الساعد مفتول العضلات واضح الرجولة ذكي الملامح ذي إرادة واضحة وعزم أكيد.
وتبتدئ الأحداث متتابعة راسمة الملامح لتاريخ هذا الشاب القوي التكوين الذي رأيناه في المشهد الأول طفلا تلقيه أمه في اليم فليلتقطه آل فرعون، ليكون لهم عدوا وحزنا.
وعدان من الله أولهما تحقق في المشهد الأول، وثانيهما تتحرك الأحداث بوتيرة محكمة لكي تحققه وتهيئ الأجواء والنفوس له. “…إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ

– “وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْه…” (القصص:15).
ويقف موسى موقف الترقب والخوف والرهبة.. “فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ…” (القصص:18) ما أجمل هذا التصوير لحالة الخوف، والخائف يترقب دائما، وهذا هو مصدر الخوف، فالترقب هو انتظار مجهول يخيفه، قد يأتي هذا المجهول وقد لا يأتي، وقد يكون الخوف ناتجا من وهم ومع ذلك فإن الترقب هو الذي يجعل الإنسان في حالة خوف.. واشتدت القبضة عليه، وزاد اختناقه عند ما ورد صديق الأمس الذي استنصره.. يستصرخه مجددا، فلما استجاب له صدمه بكلمة أيقظته “…أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ” (القصص:19)

واشتد الخناق عليه.. لا يدري ماذا يفعل..

وفجأة جاءه رجل من أقصى المدينة يسعى.. ولسان حاله يُنذره بالخطر، ويكفيه أنه جاء من أقصى المدينة مسرعا وكأنه ينقل إلى موسى خبرا مخيفا “قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ” (القصص:20)
وخرج موسى من المدينة وبصره شاخص إلى السماء، وقد أحيط به من كل جانب، وهو يقول: “رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ” وأسلم أمره لله، وهنا تبدأ مرحلة التكوين النفسي للوعد الثاني، حالة الوحشة من البشر، حالة العزوف عنهم، حالة العودة لله والاستسلام لأمره.
ويُسدل الستار من جديد على موسى وهو يمشي في طريقه إلى مدين، يبحث عن الهداية ويردد: “… عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ” (القصص:22).
ومن جديد يُرفع الستار عن مشهد مختلف… يُتبع

________________________________________
المصدر: بتصرف يسير عن كتاب/ المدخل إلى علوم القرآن الكريم، محمد فاروق النبهان، ص:29 http://bit.ly/2kGEwKb

مواضيع ذات صلة