كان الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي قال نبيه دونما لفّ أو دوران: نحن أولى بالشك من إبراهيم.. لكن هذا على الورق فقط، أعني على الورق القرآني الذي لم يدخله التحريف…
أحمد خيري العمري
عبر هذه الرحلة في أعماق الخطاب القرآني والعناصر التي غرسها في نفوس وأفكار وعقول الجيل الأول، يَحار المرء عندما يقارن بينها وبين أوضاعنا المعاصرة، أوضاع المسلمين الذين يقرؤون القرآن ويختمونه كل سنة في رمضان، ويتعبدون بقراءته ويتبركون ببركته، يَحار المرء بسبب البون الشاسع بين الموجود على الورق القرآني والموجود في الواقع.
ويحار أيضاً بسبب البون الشاسع بين الموجود على الورق الذي قرأه عبر هذه الرحلة؛ وبين الموجود على ورق آخر هو ورق الكتب والمجلدات الضخمة والكتيبات الصغيرة التي صدرت وتصدر عن الرؤية التقليدية.
لقد كان الخطاب القرآني – مثلاً– أوّل وآخر! كتاب سماوي يغرس روح التساؤل في عقول معتنقيه، وكان هذا الغرس عبر أساليب وصور متعددة ليس أولها التساؤلات الإبراهيمية المبكرة التي تحتل مكانة مهمة ومتميزة في العقيدة الإسلامية، وليس آخرها أهمية السؤال في عقيدة الحساب الأخروي التي كانت غريبة لا عن مجتمع الجاهلية فحسب، بل عن كل عقائد الأديان الأخرى بما فيها السماوية.
وكان الدين الإسلامي هو الدين الوحيد قطعاً الذي يقول نبيه دونما لفّ أو دوران: نحن أولى بالشك من إبراهيم…
لكن هذا على الورق فقط، أعني على ورق الخطاب القرآني الذي لم يدخله التحريف.
أما على الورق الآخر فتجد العكس تماماً؛ فلا إبراهيم تساءل ولا سأل ولا شيء إطلاقًا من هذا قد حصل، إنما هو حوار مع المشركين من قومه، والتساؤلات مطروحة لهم، حاشاه أن يسأل، حاشاه أن يشك. ماذا؟ هل قال الرسول شيئاً بهذا الخصوص؟ هل قال: نحن أولى بالشك من إبراهيم؟ هل الحديث صحيح؟ نعم. لكن لا مشكلة، إنما قصد بذلك أنه إذا كنا نحن أولى بالشك من إبراهيم، ونحن لا نشك، إذن إبراهيم لم يشك، هكذا وبكل بساطة. لا شيء يستعصي على اللف والدوران.
وأكثر من هذا: السؤال عنه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.. إذن السؤال في النار!
وكان الخطاب القرآني أيضًا أكثر الكتب السماوية التي حثت معتنقيها على النظر في آيات الكون، وتتابع العلاقات بينها والتبحر في عالم الأسباب، والأخذ بها، ويكاد هذا الجانب يحتل كل صفحة من صفحات الخطاب القرآني دون أدنى مبالغة، بل إن لفظة عقل ومشتقاتها التي لم تجيء إلا أفعالاً، لم تأت إلا في حالة الربط بين الأسباب والمسببات، بين المقدمات والنتائج، وقد اقترحنا أن مفهوم العقل القرآني بهذا يكون هو مفهوم الربط بين الأسباب والمسببات – مفهم السببية بأوضح وأبسط أشكالها وبأقصى صيغة يمكن لعقيدة دينية أن تتقمصها.
لكن هذا على الورق القرآني فحسب!
أما على الورق الآخر فتجد العكس تماماً، فليس ثمة أسباب ولا مسببات، وكل الأمور تجري على عاداتها فحسب، تتابع الأمور حسب العادة دون أن يكون شيء له علاقة بشيء آخر، لا النار تحرق ولا السيف يقتل، ولا اليد تحرك القلم، وإنما كل هذه الأمور قد تعودنا على تتابعها بحكم العادة، فتوهمنا ارتباطها بعضها ببعض. حدث ذلك على الورق عندما انشغلت المؤسسة في الردود، إلى أن قتلت العقل المسلم، وتبرأت من أوضح مفردات الخطاب القرآني.
وكان الخطاب القرآني وقت نزوله يمثل صدمة كبيرة لكل مفاهيم الجاهلية السلبية التي كرست الوضع الدوني المتأخر لمجتمع الجزيرة العربية، بدءًا من الاستسلام المهين لصعوبات البيئة التي أخفقت في تحفيز العربي على تحديها، وانتهاءً باحتقار العمل اليدوي بأنواعه كافة.
وكان محور هذه السلبية هو الاستسلام الجاهلي للقدر كيفما كان، ومهما كان، ونَسَف الخطابي القرآني كل هذه المفردات الواحدة تلو الأخرى، ابتداءً من إعلاء شأن العمل الصالح وجعله متلازمًا مع الإيمان، وانتهاء بغرس مفهوم مختلف للتغيير الاجتماعي؛ تغييرًا يبدأ من الداخل من المجتمع نفسه.
ويتم ذلك كله في إطار أثبت للفرد مشيئةً في مجتمع كان قد ألغى الفرد وهمشه تماماً في إطار الكيان القبلي، ولم يكتف بإثبات المشيئة الفردية وحق الخيار في أدق الأمور وأكثرها حساسية: الإيمان، بل ربط هذه المشيئة بالمشيئة الإلهية، ولم يكن ذلك إلغاء لها، كما يفهمون اليوم، بل إعلاء من شأنها وتقوية لها، وتقوية للفرد الذي سيشعر بقوة داخلية عظيمة جراء هذا الربط المقدس.
وكان هذا على الورق القرآني
أما على الورق الآخر فلقد عات المفردات السلبية، لتلبس قناعًا إسلاميًا، وتتخفى في عقول وأفكار المسلمين، فأفعال العباد – أي أفعالنا – هي من الله تعالى تقديرًا وخلقًا، ومن العباد اكتسابًا، وهي منسوبة لنا لأننا المحل الذي حدثت فيه (!)، أعمالنا لا علاقة لنا بها غير كوننا هذا المحل الذي خلقها الله فيه. كيف نحاسب إذن؟ كيف نكون مسؤولين عنها؟ معضلة! لفّ ودوران! ما معنى أن يكون العبد مكتسبًا للفعل الذي خلقه الله فيه؟ لا معنى حقيقي.
الجماهير لن تتفهم أبدًا الزاوية الضيقة التي حشرت المؤسسة نفسها فيها في إطار الردود، والردود المضادة، والتوسط بين الفِرَق التي ألغت المشيئة الفردية والأخرى التي ألغت المشيئة الإلهية، وكان التوسط فاشلاً غامضًا محيرًا يكاد يكون جبرًا مقنعاً لا أكثر ولا أقل. ولا يزال الفرد المسلم عندما يخطئ وعندما ينخرط في الخطأ ويؤخر التوبة، يتعلل بشيء من هذا القبيل، يطوف في ذهنه – وحتى أحياناً على لسانه – التعلل بالقدر وبهداية الله التي لم تأت بعد.
وكان الخطاب القرآني مصدرًا لحس مقاصدي كان هو الأساس للشخصية الجديدة بعد طول تفتت وتشتت، وكانت المقاصد العامة على كل صغيرة وكبيرة من الفرائص والأوامر، والنواهي وعموم السنن. كان الحس بالمقاصد عالياً جداً إلى درجة جعلت بعض المتماهين مع الخطاب القرآني يستشعرون الوحي قبل نزوله ويطبقون فهماً للشريعة وللحدود على هذا الأساس بعد انقطاع الوحي.
لكن الورق الآخر يقول شيئًا آخر: فقد تعامل الفقه السائد مع النصوص بشكل مجتزأ عن السياق القرآني الكامل، وحتى عن المقصد العام، وصارت النصوص تعامل كما لو كانت كُلاً متكاملاً، كما لو كانت تسبح في فضاء مطلق مفرغ من الأسباب والمسببات الاجتماعية والاقتصادية، وكلما لو كانت تصدر دونما هدف أو مقصد، وكما لو كان التعبد والحصول على الأجر، ثم الأجر تلو الأجر، يتمان عن طريق تطبيق هذه النصوص التي قد تكون أحيانًا محض هيئات، دون الالتفات إلى المقصد منها الذي قد يحتاج إلى تطوير من أجل تثبيته.
وبالطريقة نفسها عوملت نصوص السنة النبوية مجتزَأَةً عن سياقها الواقعي والتاريخي، كما لو كانت قد حكيت وحصلت في وقت ومكان مطلقين خارج حدود الزمان والمكان التقليديين. إن كلّ حدث في هذه الفترة النبوية تمّ التعامل معه على أساس كونه قاعدة عامة تصلح لكل زمان ومكان، بغض النظر عن المقصد والهدف اللذين قد يكونان شديدي الوضوح.
إنه بون شاسع بين الورق والورق!
الورق الأول الذي سُطر عليه القرآن يجعلنا نتأمل، نفكر، نعي، ونُغَيِّر. يفتح لنا عوالِمَ جديدة لم نطأها من قبل، ويجعلنا نشارك في صنع العالم وتغييره. يجعل لصلاتنا معنى متجددة ومتكاملة.
أما الورق الثاني الذي سُطِّرت عليه الكتب والمجلدات منذ قرون، فهو يضعنا في قوالب معينة، أنماط جامدة، ومكرسات تقليدية تقتل وتجهض كل ما أنبته فينا الورق الأول.
تمنعنا من التساؤل، من التفكير، من التغيير، من استنباط المعاني، من كلّ ما أمر به الورق القرآني الأول.
الورق القرآني يمنحنا عقلاً يشكله حسب قواعده وأسسه.
الورق الثاني يعلن موت هذا العقل، انتحاره، ويحارب كلّ محاولة جديدة لإحيائه.
الورق القرآني يمنحنا عينًا جديدة نبصر بها هذا الكون من جديد.
والورق الثاني يجبرنا على وضع عدسات لاصقة تنتمي لعصور سابقة تحجم رؤيتنا وتقصرها على الرؤية بعيون تنتمي لقرون خلت، لا تنتمي أحيانًا لقرون النهضة بل لعصور الانحطاط.
الورق القرآني يمنحنا بوصلة تحدد موقفنا وتميز اتجاهاتنا.
والورق الثاني ينفي الحاجة إلى تحديد الموقع والاتجاه، فهو يحرص على إبقائنا في المكان نفسه الذي جرّت إليه الرؤية السائدة جرًا، عبر القرون في الجدل والجدل المضاد والنزاع المستمر مع الفرق المناوئة، وهو مكان ضيق جدًا قد يكون الدخول فيه قد جاء عن نية حسنة، ولكنه لم يعد مناسبًا على الإطلاق…
والمسألة لن تبسط حتى نتخيلها خيارًا صعبًا بين ورقين. المسألة أعقد وأصعب من ذلك بكثير، والخيار ليس صعبًا فقط، بل يكاد يكون مستحيلاً إذا فكرنا بالخيار على أن حلّ نهائي وقطيعة نمارسها مع الورق الآخر.
إن الورق الثاني دخل وشكل جزءًا كبيرًا، بل أساسيًا، من أركان ثقافتنا وشخصيتنا عبر التاريخ، والتخلي عنه لن يكون بسهولة، مهما كان إيماننا بالورق الأول أقوى وأهم…
إن الخيار إذا تمّ سيكون عبر إعادة النظر أولاً، وإعادة التقييم ثانيًا من أجل إعادة البناء على أسس الورق القرآني، خيارنا الأكيد والوحيد.
_________________________________________
المصدر: كتاب البوصلة القرآنية، أحمد خيري العمري، دار الفكر، دمشق، ط4، 2011