د. السيد عمر*
الكون مخلوق الله له غاية، ويتصف بأعلى درجات الإتقان والجمال، وهو نعمة إلهية، وهو قابل لإحسان الإنسان إليه، أو لعقوقه، وغايته هي تمكين الإنسان المستخلف (المكلف بعبادة الله بالتفاعل معها وفق منهج الله) من فعل الخير وتحقيق الفلاح في الدنيا والآخرة، ومن أهم الثوابت المحددة للعلاقة بين الإنسان والطبيعة في هذه الرؤية الكونية الكلية الإسلامية ما يلي:
أ – الوعي بأن مبدعه والمالك لأمره كله هو الله:
الله –وحده– هو خالق كل شيء، ومسبب الأسباب، ومنه بداية وجود كل شيء، وبيده مقاليد تسييره، وإليه مآبه. والوعي الإنساني الحر بهذا الثابت معني –على الصعيد السياسي– أموراً ثلاثة: أن كل ما يحدث في الوجود إنما هو من خلق الله، والإنسان ما هو إلا مستخدم للأسباب التي خلقها الله، والإنسان مسؤول عن كل قول أو فعل يصدر عنه، وهو مطالب باستخدام الأسباب والارتقاء فيها.
وأساس المساءلة هو التنقيب عن سنن الله الثابتة في الخلق، وأخذ العبرة منها والاهتداء بها، لكونها معبرة عن إرادة الله، ولكون معرفتها والاستفادة منها هي مخ العبادة لله. فالكون مسرح للحياة، مقاليده بيد الله، وكل ما فيه قابل للفهم والتفسير بالتفكير الإنساني فيه، ومعاملة الإنسان لكل ما فيه تخضع لمراقبة الله الذي هو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد. وكل شيء في الوجود لا يخضع في الحقيقة لأمر أحدِ إلا الله وهذا الوجود –عند التدقيق– بريء من الأساطير التي تضع بعض المخلوقات فيه مصاف الألوهية أو البنوة لله، أو الوساطة بين الله والإنسان من جهة وبريء من الأساطير التي تزعم أن متاع الدنيا مدنس، وأن نبذه شرط للقربى بين الإنسان وربه من جهة ثانية، وكذا الأساطير التي تزعم أن الإنسان حر في التعامل مع الطبيعة كما يحلو له؛ فالبون شاسع بين تسخير الله ما في السموات والأرض جميعا للإنسان، وبين ادعاء الإنسان الحق في تسخير الأشياء بمنأى عن صفة الاستخلاف وميثاق أمانة الانتفاع.
وهكذا تجمع مضامين التوحيد ودلالاته خيوط السببية كافة وتردها إلى الله، وتوفر الشرط الضروري للعلم اليقيني بالسنن الكونية، حين تؤكد على أن النظام الكوني محكم ومؤسس على سنن لا تتبدل ولا تتحول، هي من صنع الله (تعالى)، وليست ذات صلة من قريب أو بعيد بالأساطير التي أفرخها الوهم الإنساني عن وجود أرواح وأشباح وسحر يفعل في الطبيعة بأي حال من الأحوال، وحدها يد القدرة الإلهية هي التي تملك الأسباب، ولا تخضع للأسباب.
ب- المخلوقات لم تخلق عبثاً ولن تترك سدى:
الطبيعة ليست مجرد نظام مادي آلي متعلق بالأسباب والمسببات، بل هي أيضا منظومة غايات، كل شيء فيها له غاية ويرتبط بشكل عضوي بكل مخلوق في الوجود ويؤثر في توازن غيره وازدهاره. وعلاقة الاعتماد المتبادل قائمة بين كل المخلوقات، والتناسق الكامل، والتفاعل المنتظم بين الموجودات هو شأن الوجود المماثل للجسد الواحد، ما لم يتعرض للعبث به والسعي إلى تغيير خلق الله.
والكون –كمخلوق إلهي– يستدعي حب الإنسان له، وتواضعه أمامه، لما فيه من عوالم بالغة الدقة والإتقان، ومن آليات للتوازن، ومن مناسبة فطرية من جانب كل مخلوق لما خلق له. ومن هذا المبدأ تتحدد ثلة من الأسس التي يجب أن تحكم خلافة الإنسان في الدنيا، من أهمها:
المخلوقات جميعا ملك الله:
فالإنسان مجرد مؤتمن عليها مسموح له بحق الانتفاع بضوابط حددها الشارع: وهذا الحق حق فردي محدود بحياة الإنسان، لا يخول له تدمير الطبيعة ولا إفساد توازنها ولا المصادرة على استمتاع الآخرين بها في المستقبل، ويلزمه بأن يعيد تلك الأمانة إلى ربه عند موته وهي على حالها على أقل تقدير، إن لم يكن قد جعلها بالعمل الصالح أفضل مما كانت عليه حين تحملها.
الانتفاع الإنساني بالأشياء بصفتي الأمانة والوكالة يقتضي المسؤولية:
فالإنسان بما أنه مستخلف ومستأمن فلا بد له أن يكون سلوكه أخلاقيا في تفاعله مع غيره من المخلوقات فلا يكون هناك أي مجال للخداع أو الإكراه أو الأنانية أو الاحتكار أو الإسراف أو التقتير، وبكلمة واحدة: لا مجال للعقوق تجاه المخلوقات الأخرى، وعلى العكس من ذلك فإن علاقة الاستخلاف تقتضي أن يجسد الإنسان كل معاني الإحسان ومكارم الأخلاق في تعامله مع غيره من المخلوقات، وفي بحثه عن سنن الله في الخلق، وعن النظام العام للكون فينتفع بالطبيعة انتفاع الرفيق بها، المرهف الحس تجاهها، الحريص على التناغم مع غايتها المقدسة المتمثلة في التسبيح المشترك طاعة لله[1].
الأمانة هي التي حملها الإنسان وأشفقت السماوات والأرض منها هي الحرية الإنسانية تجاه أوامر الله التكليفية:
وهذه الحرية هي أساس الثواب والعقاب وهي الغاية التي من أجلها خلق الله الإنسان وزوده بالفطرة والحواس، وأقام الحجة عليه بالرسل؛ فالوظيفة الكونية للإنسان هي: عبادة الله بالتجسيد الطوعي للمشيئة اللإلهية في علاقة الإنسان بالوجود كله ما بقي الإنسان على قيد الحياة.
وهذه الوظيفة هي أساس إنسانية الإنسان، فهي لا تؤلِّه الإنسان، ولا تحقره وتدنسه، بل تكرمه كمولود بفطرة صحيحة، لا موضع معها للثنائيات البغيضة من أمثال: المقدس/الدنيوي، والعلماني/الديني؛ فالمعرفية الإسلامية تنطلق من الترابط العضوي بين وحدانية الله ووحدة الحقيقة، ووحدة النفس البشرية كمضمون مشترك أكدت عليه كل الرسالات السماوية من لدن آدم، التي لم يكن شاغلها أبدا أن يكون الإنسان عابدا (بإطلاق)، فذاك شأن الإنسان بالضرورة، وإنما كان همها ولا يزال تصحيح الانحراف الإنساني المفضي إلى الشرك بالله، وذلك بإرساء التوحيد كناظم أعلى لوحدة الحقيقة ووحدة النفس البشرية. فالتوحيد الذي ينفي وجود مثيل أو شريك لله في الكون يولد الوعي لدى الإنسان بحريته، ويقيم علاقة حب بينه وبين كل ما يحيط به، قائمة على انضباط ذاتي نابع من استحضار المعية الإلهية والمراقبة الإلهية الدائمة.
والوعي الإنساني بأن كل شيء في الوجود مخلوق لغاية لا يدع مجالات لمقولات الحتميات التاريخية والطبيعية بما يترتب عليها من صراع بين الإنسان والإنسان، وبينه وبين غيره من المخلوقات، بل يكشف له عما وراء تلك السنن الإلهية من رحمة وسعت كل شيء، تجعل من تلك الموجودات مسرحا ومادة للتقوى والعمل الصالح، والتعانق بين هذه الوحدات الثلاث من شأنه تعزيز الحرية التوحيدية التي تتسامى معها قدرة الإنسان على فعل الخير، لأن الشر عارض على الإنسان ومقرون بالعبث بالحرية وتعطيل قابلياته للمعرفة. ولا موضع في ظل الحرية التوحيدية التي هي الأمانة التي تحملها الإنسان لمقولات الخطيئة الأولى، أو لتحميل أي إنسان وزر غيره، أو لتكليفه ما لم يبلغ الحلم، ويعمل بإرادة حرة واعية في توجيه معطيات الزمان والمكان.
الإنسان مكرم:
جوهر الإنسان الذي يتعين الحفاظ عليه هو تصوير الله له في أحسن صورة، وتسويته والنفخ فيه من روحه ودعوته للحفاظ على ذلك بالعلم والتقوى والنية الخالصة لله المجسدة في العمل الصالح. والإنسان غير معصوم ولكنه يستطيع تدارك الخطأ بالتوبة والاستغفار بل يستطيع بهما تحقيق الاصطفاء ومعية الصديقين والشهداء والصالحين، دون أن يحتاج لمخلص آخر يفديه.
الهامش:
[1] لا موضع في هذا التصور للمقولات اليهودية الزاعمة بأن الله تزوج ببنات من البشر، وتجسد لنبيهم، وصارعه، وبأن أبناء الله وأحباؤه، كما أنه لا موضع لمقولة تجسد الرب في إنسان حقيقي مشى على الأرض، وجرت عليه السنن الكونية بما فيها الموت، وجمع بين الإنسان والإله. انظر على سبيل المثال الإصحاحين السادس والحادي والثلاثين من سفر التكوين، والإصحاح الأول يوشع، الكتاب المقدس، ص 834، ص 1068-106، ص 1286.
________________________________
المصدر: كتاب الأنا والآخر من منظور قرآني، د. السيد عمر، دمشق، دار الفكر، ط1، 2008، ص:58-63