دلالة الفطرة على وجود الله

الحديث عن الإيمان بالله وتوحيده؛ يعد من صميم العقيدة، ومن الأمور التي جبلت الفطرة السوية عليها.. يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (الحجرات:15).

فالذي يجد في نفسه ريباً أو شكًا في مسألة الإيمان بالله؛ يعد من غير المؤمنين، فليس في الإيمان بالله وتوحيده حل وسط، فإما أنك مؤمن إيمانًا قطعياً ولو أن أهل الأرض كلهم كفروا فأنت لا تكفر، وإما أن يكون في هذا الإيمان ريب أو شك أو تردد فهذا ليس بإيمان والدليل القاطع قوله تعالى: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا” (الحجرات : 15).. فلو أنهم ارتابوا لفقدوا صفة الإيمان.

والإنسان بفطرته التي فطره الله عليها مؤمن بالله، وفي هذا المقال سنتكلم باختصار وبساطة عن دليل الفطرة والبداهة على وجود الله، وآثارها في الإيمان.

الفطرة

لو ركب البحر إنسان ملحد وإلحاده عميق، أي عنده ألف دليل ودليل بحسب تصوره؛ على أنه لا إله، وصارت الأمواج كالجبال وأصبحت السفينة تتهاوى بين الأمواج كريشة في مهب الريح، عندئذٍ يلتجئ هذا الملحد إلى من؟!

والفطرة: كأنها مرآة صافية نظيفة ينطبع عليها الشيء الذي أمامها، وهكذا طبيعة المرآة.. أنها تعكس ما أمامها، فلو أن دخانًا كثيفًا طمسها لغيَّر صفاءها، وغيّر قابليتها للانعكاس وعندئذٍ يأتي الدليل، فالإيمان بالله عز وجل يمكن أن يكون عن طريق الفطرة السليمة، ويمكن أن يكون عن طريق الدليل العقلي والبرهان العلمي، وفي هذه المقالة سنتحدث إن شاء الله عن الانقياد بالفطرة إلى الإيمان بالله.

إن الإنسان.. أيٌّ إنسان، كبير أم صغير، متعلم أم جاهل، غني أم فقير، قوي أم ضعيف، مدني أم ريفي، عبقري أم غبي، بحسب فطرته مؤمن بأنه لا إله إلا الله؛ فكيف يبدو هذا؟

فلو ركب البحر إنسان ملحد وإلحاده عميق، أي عنده ألف دليل ودليل بحسب تصوره؛ على أنه لا إله، وصارت الأمواج كالجبال وأصبحت السفينة تتهاوى بين الأمواج كريشة في مهب الريح، عندئذٍ يلتجئ هذا الملحد إلى من؟! إلى الله عز وجل، وهذه طائرة تحمل بضعة خبراء لا يؤمنون بالله، ينكرون وجوده فلما وقعت في عدة جيوب هوائية، وظن هؤلاء أن الطائرة على وشك السقوط دعوا الله مخلصين، فالإنسان مؤمن بالفطرة لكنه وهو في سلام، وفي بحبوحة، وفي غنى، وفي أوج وقوة يكابر.

ولقد نشأ شخص ما في بيئة تنكر وجود الله عز وجل إنكاراً كلياً، وعمل عند شخصٍ آخر في حرفة، وهذا الشخص أيضاً ينكر وجود الله، وأوحى إلى ذلك الشخص الذي يعمل عنده وأقنعه بأنه لا إله، وقال افعل ما تشاء فالحياة اقتناص ملذَّات.. وهكذا فعل، فلم يترك معصيةً إلا وارتكبها.

وعمل في التجارة فربح مئات الألوف وتزوج وسافر إلى بعض الدول وفعل فيها من كل أنواع المعاصي.. وفجأةً صودرت بضاعته وبقي بلا دخل وعليه دين، وصار أصحاب الدين يطالبونه بقسوة، مرض أولاده وزوجته وليس معه ثمن الدواء فضلاً عن ثمن الغذاء، وضاقت عليه الدنيا.. فما كان منه إلا أن قال: أصابتني مصائب لو أنها نزلت على جبلٍ لهدَّته، وما شعرت في أحد الأيام إلا وأنا داخل إلى المسجد لأصلي فهذه هي الفطرة وصلّى.

إنسان آخر هذا عقيدته أنه لا إله وله أعمال مخزية جداً، وعنده بنت صغيرة في سن الورود مرضت مرضاً شديداً، وهذا المرض جعله ينفق كل ما يملك إلى أن قال له أحد الأطباء: لا تنتظر أن تعيش هذه الفتاة دعها كي تموت، يقول: فكنت آخذها معي إلى عملي خشية أن تموت في غيابي. وذلك لشدة تعلقه بها وهو يصر أنه لا إله..

وذات يوم ارتفعت حرارتها نحو الأربعين وبقيت فلم يترك طبيب أطفال إلا وزاره، ولم يترك دواءً إلا واستعمله، وهذه الحرارة لا تنخفض، إلى أن همس في أذنه أحد أطباء الأطفال إن هذا المرض نادر الوقوع وإن هذه الحرارة لن تنخفض إلا عند الموت، قال: في أحد الأيام قلت لزوجتي سخني لي الماء لأغتسل للصلاة، وسأل زوجته: ماذا تقرئين في الصلاة؟ إنه لا يعرف الفاتحة، وتقول زوجته: بقي واقفاً نصف ساعةٍ يبكي ويقول: يا رب إما أن تأخذها أو أن تأخذني أو أن تشفيها، ضيّق الله عليه فظهرت فطرته.. فأين الإلحاد؟ أين دعواك العريضة أنه لا إله؟ وما أن سلم من صلاته حتى رأى حرارتها قد انخفضت بعد أن تصلبت عضلاتها وبدأت تتحرك.

أقول لكم هذه الكلمة: ما من إنسانٍ ينكر وجود الله عز وجل إلا وهذا قوله يوم القيامة: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ . انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ” (الأنعام : 23-24).

الفطرة لا تحتاج إلى براهين وأدلة لأنها من المسلمات.. وعلى كل حال فواقع الناس أكبر دليل على حقيقة الفطرة في بحثهم عن الرزق أو الإحساس بالجوع أو غير ذلك؛

فجميع الناس مدفوعون بدافعٍ من فطرتهم إلى كسب قوت يومهم وهذا دافع خفي، فعندما يفتح الإنسان محلاً وينطلق هذا المحل فإن نفسه ترتاح لأنه أمن رزقه وأكله، وإذا كان الموسم جيداً والقمح كثيراً يرتاح الفلاح لأنه أمن المؤونة فالفطرة هكذا، الإحساس بالجوع هل لك أن تنكره؟ برهن عليه، أخي أنا جائع ما الدليل عليه؟ إنه لا يحتاج إلى دليل، إحساس بالجوع صارخ فالإحساس بالجوع فطرة، لا أقول هذا الكلام لأنه ليس هناك أدلة على وجود الله، هناك ملايين الأدلة، لكن أحب أن أؤكد لكم قبل كل شيء على أنك إنسان بفطرتك مؤمن بالله وحينما لا تؤمن تصور مرآةً كانت صقيلةً نظيفةً ذات قابليةٍ للانعكاس عالية جداً، جاءها دخان كثيف من شمعةٍ فطمست معالمها، وشفافيتها، وانعكاسها عندئذٍ الآن نحتاج إلى دليل فلو أن هذه المرآة صافية لما احتجنا إلى دليل.

الشعور الفطري مشترك بين جميع الخلائق على الرغم من اختلاف الأديان والفروق الاجتماعية بينهم:

الشعور الفطري إحساس بين جميع الخلائق المدركة على اختلاف نزعاتها ومستوياتها وثقافاتها في البيئات البدائية، وفي المدن المتحضرة، وفي منتديات المثقفين، وفي قاعات العلوم والفنون والمختبرات، إنه شعور مشترك بين جميع الناس، يقوم في نفس الطفل الصغير والإنسان البدائي والمتحضر، والجاهل، والعالم، والباحث، والفيلسوف، والعبقري، والخبير في المعمل، وكل هؤلاء يشعرون أن الله حق، وأنه القوة القابضة على ناصية كل شيء والعالمة بكل شيء والحكيمة والمريدة التي لا شك فيها.

وهذه كلمةٌ لأكبر عالمٍ في الذرة، إنه آينشتاين صاحب أقوى نظرية حتى الآن، وهي نظرية النسبية، قال هذا العالم: “كل إنسان لا يرى في هذا الكون قوةً هي أقوى ما تكون، عليمةً هي أعلم ما تكون، حكيمةً هي أحكم ما تكون، هو إنسان حي ولكنه ميت”.

الأدلة القرآنية تؤكد حقيقة الفطرة في الإنسان:

قال تعالى: “قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ” (إبراهيم: 10).

هو الذي فطر السموات والأرض فطرها على أن تؤمن به.. وقال: “تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً” (الإسراء: 44).

فالذي فطر السموات والأرض فطرها على أنها تؤمن به بدافعٍ من بنيتها وخلقها، وقال تعالى في آية أخرى: “فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” (الروم: 30).

_______________________________________

المصدر/ موسوعة النابلسي للعلوم الإسلامية (بتصرف)

مواضيع ذات صلة