للكون إله.. العقيدة في مواجهة الشكوك ج1

د. صبري الدمرداش

حائر

انضم للأسرة طالبٌ يوخزه الشك، ويستبد به القلق، وتعصف به هواجس التردد، إنه يشك في كل شيء، ولا يكاد يؤمن بشيء.

دار الحديث التالي بين أفراد إحدى الأسر في واحدة من الأمسيات التي يلتم فيها الشمل.. تلك الأسرة مكونة من: أبٍ عالمٍ في الفلك، وأم معلمة للفيزياء في المرحلة الثانوية، وأولادهما.. أيمن الطالب بإحدى الكليات العملية (العلوم)، وإيمان الطالبة بإحدى الكليات النظرية (الآداب)، وشقيق الزوجة الذي يعمل أستاذاً للدعوة والعقيدة بإحدى كليات الشريعة، وأخيرا انضم للأسرة طالب في كلية العلوم زميل ابنها أيمن، طالبٌ يوخزه الشك، ويستبد به القلق، وتعصف به هواجس التردد، إنه يشك في كل شيء، ولا يكاد يؤمن بشيء.

وهكذا كان “الحيران” هو الشخصية السادسة في الأمسية. وقد وضعنا على لسان هذا الحيران جميع أسئلة المتشككين ليتصدى لها كل من العالم والفقيه بالتشريح والتفنيد ببصيرة المؤمنين وثبات الموقنين ورسوخ الواثقين. إنه يسأل: أين الله؟ ويعترض على وجود الروح كما ينكر الجنة والنار، ولا يعترف ببرزخٍ ولا بعثٍ ولا نشور، فقد صد عن كل ما هو غيب.

وقد دار الحوار في هذه الأمسية على عدة محاور نبدأها بمحور”رؤية بعض علماء الطبيعيات للحق سبحانه”.

  • الله في عيون علماء الفلك

العالم: ألا ما أكثر العلماء الذين أفنوا عمرهم كله أو جله في دراسة الكون، يرقبون السماء من مراقبهم، ويستقبلون ما ترسل لهم من رسائل راديوية وغير راديوية.

الجميع: مثل من؟

العالم: هارلو شابيلي، والسير جميس جينز، وكارل ساجان، وإدوين هابل.

الجميع: لنستمع إلى بعض ما يقولون إذا.

  • هارلو شابيلي

    شابيلي

    هارلو شابيلي:

العالم: العلامة هارلو شابيلي هو أستاذ الفلك بجامعة هارفارد ومن أعظم علماء فلك القرن العشرين، ومن جملة أعماله المأثورة أن حدد موقع منظومتنا الشمسية في مجرتنا درب التبانة.. يقول شبيلي عن الجوهر الأسمي: “تنحصر جواهر الكون في أربعة جواهر أساسية: الزمان والمكان والمادة والطاقة. والحقيقة أن كل علم تجريبي لا يمكن بحثه إلا من خلال هذه الجواهر الأربعة أو من تداخل بعضها في بعض؛ فالحركة والسرعة والدورات الحيوية كلها لا يمكن بحثها إلا من خلال هذه الجواهر.

لكن قد تكون هناك جواهر أُخر لم نعرفها بعد، وقد تكون لها أهمية أكثر من هذه التي نعرفها وقد تكون أسمى منها. ونحدد السؤال فنقول: أليس هناك جوهر أساسي لتسيير هذا الكون؟ ولأضع السؤال في قالب آخر: إذا كان لديك القوة الكاملة والفرصة المناسبة والرغبة الواضحة في العمل، وأعطيت هذه الجواهر الأربعة الأساسية المتقدم ذكرها، فهل بإمكانك أن تركب منها كوناً مثل كوننا؟! أم تشعر بأنك عاجز عن ذلك، وأنك بحاجة إلى جوهر خاص لكي يركبه لك؟

وأما أن يكون هذا الجوهر الخامس موجوداً فهذا ليس فيه أدنى شك. هل هو الجوهر السيد؟ ربما كانت ضرورته أكبر من جوهري الزمان والمكان، ومن المحتمل أنه يشملهما، فهو جوهر مختلف عن كل الجواهر أو إن شئت فهو جوهر الجواهر. وهل هو الصمد (Indispensable) الذي لا غنى عنه لأحد؟ ذلك الذي يبعث الوميض في عالم النجوم التي لولاها هي – بالتالي – لما كان هناك كون؟

قد يفكر البعض أنني أعني بهذا الله، لكننا يجب ألا نستعجل في هذه القضية العميقة بعيدة الغور. يجب أن لا نستعمل هذه الكلمة المهمة الشاملة لجزء واحد من العالم فقط أو لمفهوم ندركه إدراكاً بدائياً بسيطاً. إن من يبحث في مجال علم الكون، سيدهشه أن يجد مميزات خبيئة في العالم تسير ديناميكيته سيراً مستقلاً وتشكله وتدفعه ولها القدرة على كل شيء. أو أنها قوة واعية. ولكنها بهذه الصفات لا يقتصر مداها على ما موجود في الأرض فحسب، بل تشمل الكون كله”.

الفقيه: إن شابيلي بقوله هذا يصل إلى نتيجة بديهية وهي وجود قوة عاقلة مسيطرة على كل الجواهر الأخر التي يعرفها العلماء، ويحاول أن يثبت وجود الله علمياً.

العالم: بلى، ولكنه يكتب بهذا الطريقة المقيدة لأنه يعرف الذين يتكلم معهم، يجب أن يحدثهم عن طريق العقل والمنطق العلمي.

الجميع: وهو لا يفعل غير ذلك.

  • السير جميس جينز:

العالم: السير جميس جينز يعد واحداً من علماء الفلك الكبار، وهو يقول: “إن القوانين والمعادلات الرياضية التي يتحرك الكون على أساسها، استخرجناها من عقولنا بالفكر والتأمل ثم الحساب. فلما مددنا النظر من خلال مراقبنا وجدنا أن أبعد الأجرام السماوية مما لم نكن نرى أو نعلم سائراً وفق هذه القوانين. وإنه لأمر بدهي أن نتصور أن هذه القوانين في عقل كلي شامل مهيمن وأن هذا العقل أودعها عقولنا كما أودعها الكون ليسر على أساسها. وأن الكون كله مشروع متقن من تصميم مهندس مبدع عظيم هو الذي وضع له الفكرة ووضع القوانين”.

  • الله في عيون علماء الفيزياء

  • أينشتاين

    أينشتاين

    أينشتاين:

العالم: نستمع إلى قول شيخهم ألبرت أينشتاين، عندما ذهبت إليه جماعة من اللاهوتيين والأخلاقيين والعقليين والماديين إلى مكتبه في معهد الدراسات العليا في جامعة برنستون ليحكم بينهم في موضوع الله بعد أن اختلفوا حوله، وسألوه: ما رأيك في الله؟!

الجميع: وماذا قال أينشتاين؟

العالم: أجاب: “لو وفقت لأن أخترع آلة تمكنني من مخاطبة الميكروبات، فتحدثت مع ميكروب صغير واقف على رأس شعرة من شعرات رأس إنسان، وسألته: أين تجد نفسك؟ لقال لي: إني أرى نفسي على رأس شجرة شاهقة أصلها ثابت وفرعها في السماء. عندئذ أقول له: إن هذه الشعرة التي أنت على رأسها إنما هي شعرة من شعرات رأس الإنسان، وأن الرأس عضو من أعضائه. ماذا تنظرون؟ هذا الميكروب البكتيري أو الفيروسي المتناهي في الصغر (حجمه جزء واحد من مليار جزء من السنتيمتر المكعب ووزنه جزء واحد من ترليون جزء من الجرام) هل استطاع أن يتصور جسامة حجم الإنسان ووزنه؟ كلا، إني بالنسبة إلى الله لأقل من هذا الميكروب وأحط بمقدار لا متناهي، فأنّى لي أن أحيط بالله الذي أحاط بكل شيء!”.

الجميع: تشبيه موفق وكلام عظيم من عالم عظيم.

العالم: ويواصل أينشتاين كلامه قائلاً: “إن أعظم وأجمل شعور يصدر عن النفس البشرية، هو ما كان نتيجة التطلع والتفكر والتأمل في الكون ومكنوناته. إن الذي لا يتحرك شعوره وتموج عاطفته نتيجة هذا التأمل لهو حي كميت.

إن خفاء الكون وبعد أغواره وحالك ظلامه إنما يخفي وراءه أشياء كثيرة منها الحكمة وفيها الجمال، ولا تستطيع عقولنا القاصرة إدراكها إلا في صور بدائية بسيطة. وهذا الإدراك للحكمة والإحساس بالجمال ما هو إلا جوهر العبادة عند بني البشر. إن ديني هو إعجابي بتلك الروح السامية التي لا حد لها. تلك التي تتراءى في التفاصيل الصغيرة القليلة التي تستطيع إدراكها عقولنا الضعيفة العاجزة. وهو إيماني العاطفي العميق بوجود قدرة عاقلة مهيمنة تتراءى حيثما نظرنا في هذا الكون المعجز للإفهام”.

حيران: معنى هذا أن أينشتاين كان مؤمناً بالله؟!

العالم: لم يكن مؤمناً فحسب، بل كان يرى أنه  ما من عالم عبقري ينفذ إلى بعض أسرار الحكمة والنظام في الخلق إلا ويكون إيمانه بالله عظيماً، بل إنه ليرى أن العلم لا يستقيم في مسيرته بلا إيمان، وأن الإيمان لا يستنير بغير العلم، وفي هذا كله يقول وألا ما أروع ما يقول: “إن أجمل هزة نفسية تشعر بها هي تلك الهزة التي نستشعرها عندما نقف على عتبة الخفاء من باب الغيب. إنها لنواة لمعرفة الحق في كل علم.

 إنه لميت ذلك الذي يكون غريباً عن هذا الشعور، فيعيش مغيباً، من غير أن تجد روعة التعجب إلى نفسه سبيلاً. إن جوهر الشعور الديني في صميمه هو أن نعلم بأن ذلك الذي لا سبيل إلى معرفة كنه ذاته موجود حقاً ويتجلى بأسمى آيات الحكمة وأبهى أنوار الجمال التي لا تستطيع ملكاتنا العقلية المسكينة أن تدرك منها إلا صورها الجبلية في السطح دون الدقائق في الأعمال”.

الأم: ألا طوبى لأينشتاين في تواضعه واستكانته أمام سلطان الحق وجبروته، إنه يقول “ملكاتنا العقلية المسكينة”، وهو من هو، من أذكى أذكياء الأرض!.

العالم: بلى، ثم يهتف بإيمان العالم الذي يدرك ما بين الإيمان بوجود الله والعلم من تعاون: “أي إيمان عميق بالحكمة التي بُني عليها هذا الكون كان إيمان كلبر ونيوتن؟! وأي شوق لها كان شوقهما لأن يريا أضأل شعاع من نور العقل المتجلي في هذا الكون؟!… إنني لا أستطيع أن أتصور عالماً حقاً لا يدرك أن المبادئ الصحيحة لعالم الوجود مبنية على حكمة تجعلها مفهومة عند العقل. إن العلم بلا إيمان ليمشي مشية الأعرج، وإن الإيمان بغير علم ليُتلمس تلمس الأعمى”.

  • نيوتن:

العالم: ويقول نيوتن -أمير الفلاسفة الطبيعيين- عن قانونه في الجذب العام: “إنه لأمر غير مفهوم حقاً أن تجد مادة لا حياة فيها ولا إحساس وهي تؤثر على مادة أخرى مع أنه لا توجد بينهما ثمة علاقة”.

الجميع: استغراب في محله.

العالم: ويعلق نيوتن على استغرابه قائلاً: هذا هو أسلوب الله في العمل، فالله يجري مشيئته في الكون بواسطة أسباب وعلل.

ولحديث الأسرة في أمسيتها بقية…

__________________________________

المصدر: بتصرف  يسير عن كتاب: للكون إله، د. صبري الدمرداش،  مكتبة المنار، الكويت، ط2، 2006، ص:609-614

مواضيع ذات صلة