إن الحج ميلاد جديد للإنسان، فهل علمت مولوداً جاء إلى الدنيا وفي صحيفته ذنب فعله، أو خطيئة قارفها. ألا فإن الحاج يعود من حجه وصحيفته بيضاء نقية كأنما خرج إلى الدنيا من بطن أمه…
د.عبدالوهاب بن ناصر الطريري
تضيفت الشمس للغروب عشية عرفة ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – باسط كفين ضارعتين، داعياً بخشوع وخضوع وإخبات، ثم أرسل يديه وأقبل على بلال يقول له: (يا بلال استنصت الناس).
فنادى فيهم بلال واستنصتهم، فأطافت القلوب، وأصاخت الآذان، واشرأبت الأعناق، وأَبَّدَت العيون بصرها إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي ناداهم: (إن جبريل أتاني فبشرني أن الله قد قَبِلَ من مُحسنكم، وتجاوز عن مُسيئكم، وتحمل عنكم التبعات).
وهنا انطلق إليه العبقري الملهم عمر بن الخطاب ليقول: (يا رسول الله هذه لنا خاصة أم للناس عامة)، فقال – صلى الله عليه وسلم –: (بل للناس عامة)، فقال عمر: (كثر خير ربنا وطاب).
ما أروع هذه البشرى النبوية وهي تسكب في قلوب الحجيج الواقفين بعرفات سويعة النفرة إلى المزدلفة، فتخب بهم مطاياهم وكأنما تعرج بهم إلى السماء، وقد تخففوا من سيئاتهم، وبوركت حسناتهم.
فيوض إلهية أثناء الحج وبعده…
وكما تجلت في هذه البشرى النبوية الرحمة الإلهية والفيض الرباني الغامر، فقد تواردت نصوص أخر بهذه البشائر والفيوض الإلهية.
لما جاء عمرو بن العاص يعرض إسلامه على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هش له النبي– صلى الله عليه وسلم – وبش، وبسط يمينه المباركة ليبايعه على الإسلام، ولكن عمراً قبض يده، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم – (مالك عمرو؟) قال: أردت أن أشترط، قال – صلى الله عليه وسلم –: (تشترط بماذا؟) قال عمرو: أشترط أن يغفر لي، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (يا عمرو أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله).
إن الحج هدم لكل ركام الخطايا والذنوب السالفة، كما أنّ الإسلام يهدم كل خطايا الكفر.
ومثل ذا قوله – صلى الله عليه وسلم –: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
إن الحج ميلاد جديد للإنسان، فهل علمت مولوداً جاء إلى الدنيا وفي صحيفته ذنب فعله، أو خطيئة قارفها. ألا فإن الحاج يعود من حجه وصحيفته بيضاء نقية كأنما خرج إلى الدنيا من بطن أمه.
فإلى كل من حج بيت الله الحرام ووقف في تلك المواقف، حيث مشاهد التجلي الإلهي، وتنـزل الرحمات، إلى من بسط في تلك المشاهد كفيه، وحسر رأسه، وتجرد لله في لباس العبودية والذل والمسكنة.
أبشروا وأملوا ما يسركم، فبشرى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صدق، وموعود الله حق “ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ” (الجمعة:4).
أيها الحاج لقد دعوت رباً عظيماً، براً كريماً، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا فضل أن يعطيه، فأحسن ظنك بربك، وبالغ في الإحسان، فإن ربك عند ظنك، وعطاء الله أعظم من أملك، وجوده أوسع من مسألتك.
لقد دعوت ربك الذي إذا تقربت إليه شبراً تقرب إليك ذراعاً، وإن تقربت إليه ذراعاً تقرب إليك باعاً، وإن أتيته تمشي أتاك هرولة.
احتسب عند ربك يوم تجلى الله على أهل ذاك الموقف -وكنت معهم-، فقال العزيز الجبار لملائكته وهو أعلم: “ما أراد هؤلاء، أتوني شعثاً غبراً ضاحين، أشهدكم أني غفرت لهم“.
احتسب عند ربك يوم أفاض أهل الموسم حاسري الرؤوس -وأنت معهم-، فقال الله – عز وجل-: “أفيضوا مغفوراً لكم.
احتسب عند ربك أن هذا الموسم الذي شهدته شهده معك شُعْثٌ غُبْر لا يُعرَفون ولا يؤبه لهم، ولو أقسم أحدهم على الله لأبره، فقبلهم الله وقبل من معهم، وقال: (… هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) رواه مسلم.
أيها الحاج: ظن بربك ولا تظن إلا خيراً، ومن حسن ظنك بربك أن تظن بيقين أنه قد قبل حجك، وغفر ذنبك، وأجاب دعاءك، وضاعف عطاءك ،وأنه ما استزارك إلا ليقبلك، ويغفر زلتك، ويبيض صحيفتك، ومهما ظننت ففضل الله أوسع مما تظن وتؤمل.
وهكذا كان شأن الصالحين والعلماء الراسخين في تلك المشاهد والعرصات.
قال ابن المبارك: (جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة، وهو جاثٍ على ركبتيه، وعيناه تهمِلان، فالتفت إليَّ، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظنُّ أن الله لا يغفر لهم).
وروي عن الفُضَيل أنه نظر إلى نشيج الناس وبكائهم عشيَّة عرفة، فقال: (أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجلٍ فسألوه دانِقاً، يعني: سدس درهم، أكان يردُّهم؟ قالوا: لا. قال: والله، للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجلٍ لهم بدانِقٍ).
وإنـــــي لأدعــو الله أسألُ عفوه *** وأعـــلــــــم أن الله يعفـو ويغفـر
لئن أعــــظم الناس الذنوب فإنها *** وإن عظمت في رحمة الله تصغر
أخي الحاج اجعل في أذنيك وقراً عن سماع نوع من المواعظ تُضيق الطريق إلى الله، وتتحجر واسع رحمته، وتقنط الناس من قبول صالح أعمالهم، فإذا جد أحد في طاعة وقفوا له قائلين: ليست العبرة بالعمل ولكن الشأن في القبول، ولا تدري هل قبل عملك أم لا؟ وكأن هذا القبول ضربة حظ لا يدري أحد هل تصيبه أم لا ؟ وهل اليأس من روح الله إلا هذا؟.
إن يقينننا بالله أن كل عمل صالح ابتغي به وجهه فسبيله القبول والمضاعفة، وأن الله – عز وجل- أكرم وأفضل من أن يرد على عبده عملاً صالحاً عمله خالصاً له، وأن من ظن بالله غير ذلك فقد ظن به ظن السوء.
“مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا” (النساء:147).
فيا أخي الحاج هنيئاً لك وبشرى وقرة عين، فقد ولدت بحجك هذا ميلاداً جديداً، وتركت وراءك ركام الذنوب، وحصيلة العمر من الآثام، وعدت كيوم ولدتك أمك، فاجعل من حجك بداية حياة جديدة، ومعاملـة صادقة صالحة مع الله، واستأنف عملك فقد كفيت ما مضى، ولكن الشأن فيما بقي.
واعلم -بوركت حياتك – أنه ليس من شرط قبول العمل العصمة بعده، ولا أنك بحجك ستتخفف من بشريتك وتعرج في ملكوت الملائكة بلا نوازع ولا شهوات، كلا فليس شيء من ذلك بمقدورك وإن جهدت، ولكنك ستبدأ بعد حجك جولة جديدة وأنت خفيف الظهر من تراكمات الماضي، وتبدأ حياتك برجاء كبير وإقبال على الله، تستكثر من الطاعات، وتجاهد النفس عن السيئات، فإن زللت بسيئة أتبعتها حسنة، (… وأتبع السيئة الحسنة تمحها…) رواه أحمد والترمذي، وكل حسنة فسبيلها المضاعفة والتكثير، وكل سيئة سبيلها المغفرة والتكفير، ولا يهلك على الله إلا هالك.
أخي الحاج كان السلف الصالح يتلقون الحجيج عند قدومهم يسألونهم الدعاء، ويقولون: استغفروا لنا؛ لأنهم قد عادوا من حجهم بلا ذنب فهم مظنة قبول الدعاء.
وإني أستقبلك في هذا المقال سائلاً منك الدعاء لكل إخوانك المسلمين أن يغفر الله ذنوبهم، ويهدي قلوبهم، ويصلح شأنهم، ويصرف السوء عنهم، ويتولاهم بما تولى به الصالحين من عباده. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
______________________________
المصدر: بتصرف يسير في المتن والعنوان، عن موقع صيد الفوائد