لا يتوقف الحديث عن العلاقة بين العلم والدين في جلسات الكتاب والمفكرين والمنظرين، ولا تهدأ المقالات التي تتناول تلك القضية التي لا يكف الملحدون عن إثارتها من وقت لآخر محاولين إثبات أن ثمة تعارض وصدام بين المكتسبات العلمية والتعاليم الدينية.. نظرة فلسفية أعمق لا تخلو من إسقاطات علمية يتناولها الكاتب في المقال التالي في محاولة جديدة لفك اشتباك تلك العلاقة.. إن ثبت وجود اشتباك من الأساس.. وإذا كان الجزء الأول من المقال قد ناقش بشكل مبسط الحسابات والنسب الكونية الدقيقة التي لا يمكن أن تقبل القول بالصدفة أو العشوائية، فإن الجزء الثاني يحملنا في رحلة مثيرة لعوالم ما وراء الطبيعة لنرى كيف يمكن للعلم أن يسهم في حمل العقل على الإيمان بعالم الغيب السماوي![1]
أ.د. عبد الباسط هيكل**
إنتاج معادلة كيميائية واحدة بنجاح تخبرك عن كيميائي بارع يقف خلف إنتاجها، فكيف بعدد هائل من المعادلات الكيماوية المنظمة لحياة الجسد ألا تخبر بالله الذى لا مثله شيء في الإيجاد من عدم هذه الكمياء الدقيقة المعروفة بالإنسان..عمليات التنظيم التى تقوم بها الهرمونات والإنزيمات بين التعجيل والإبطاء للعمليات الكيميائية والحيوية تخبرك عن خالق “خلق كل شئ فقدره تقديرا”.
الأمثلة لن تنتهي في علم النبات والحيوان والطب والفلك مجلدات ومجلدات.. القول بأن كل هذا الاتساق والنظام حدث صدفة واتفاقا هو السذاجة بعينها كقولنا إن “انفجارا في مطبعة أدى إلى أن تصطف الحروف على هيئة قاموس محكم”.
“سوف نسلم جدلا بأنه حدث صدفة واتفاقا وبعد ملايين الملايين من التباديل والتوافيق بين العناصر.. تكونت بالصدفة في مياه المستنقعات كمية من الحامض النووي DNA الذى يستطيع أن يكرر نفسه.
لكن.. كيف تطورت هذه الكمية من الحامض العضوي إلى الحياة التى نراها؟
سوف نعود فنقول بالصدفة أمكن تشكيل البرتوبلازم. ثم بصدفة أخرى تشكلت الخلية. ثم بصدفة ثالثة تشعبت إلى نوعين خلية نباتية وخلية حيوانية.
ثم نتسلق شجرة الحياة درجة درجة ومعنا هذا المفتاح السحري. كلما أعيتنا الحيلة في فهم شئ قلنا إنه حدث صدفة. هل هذا معقول؟
بالصدفة تستدل الطيور والأسماك المهاجرة على أوطانها على بعد آلاف الأميال وعبر الصحارى والبحار.
بالصدفة يكسر الكتكوت البيضة عند أضعف نقطة فيها ليخرج.. بالصدفة تلتئم الجروح وتخيط شفراتها بنفسها بدون جراح.. بالصدفة يدرك عبَّاد الشمس أن الشمس هي مصدر حياته فيتتبعها.. بالصدفة تصنع أشجار الصحارى لنفسها بذورا مجنحة لتطير عبر الصحارى إلى حيث ظروف إنبات وري وأمطار أحسن.. بالصدفة اكتشف النبات قنبلته الخضراء (الكلوروفيل) واستخدمها فى توليد طاقة حياته.. بالصدفة صنعت البعوضة لبيضها أكياسا للطفو (بدون معونة أرشميدس).. والنحلة التى أقامت مجتمعا ونظاما ومارست العمارة وفنون الكيمياء المعقدة التى تحوّل بها الرحيق إلى عسل وشمع.. وحشرة الترميت التى اكتشفت القوانين الأولية لتكييف الهواء فأقامت بيوتا مكيفة وطبقت في مجتمعها نظاما صارما للطبقات.. والحشرات الملونة التى اكتشفت أصول وفن مكياج التنكر والتخفى..هل كل هذا جاء صدفة؟!!
سلسلة الخبطات العشوائية!
وإذا سلمنا بصدفة واحدة في البداية فكيف يقبل العقل سلسلة من المصادفات والخبطات العشوائية.. إنها السذاجة بعينها التى لا تحدث إلا في الأفلام الهزلية الرخيصة.
وقد وجد الفكر المادي نفسه في مأزق أمام هذه السذاجة فبدأ يحاول التخلص من كلمة صدفة ليفترض فرضا آخر. فقال إن كل هذه الحياة المذهلة بألوانها وتصانيفها بدأت من حالة ضرورة.. مثل الضرورة التى تدفعك إلى الطعام ساعة الجوع. ثم تعقدت الضرورة بتعقد الظروف والبيئات والحاجات فنشأت كل هذه الألوان. وهو مجرد لعب بالألفاظ. فمكان الصدفة وضعوا كلمة “تعقد الضرورة”، وهي في نظرهم تتعقد تلقائيا.. وتنمو فى نغمة واحدة إلى سيمفونية تلقائيا.
كيف ينمو الحدث الواحد إلى قصة محبوكة بدون عقل مؤلف؟ ومن الذى أقام الضرورة أصلا؟ وكيف تقوم الضرورة من لا ضرورة؟”
إن الجسم لا يستطيع أن يعيش بلا أكسجين إلا ثواني معدودة هذه قوانين بيولوجية.. الصلاة تكون حين نتوجّه بكليتنا إلى روح الوجود في حب وابتهال في استنجاد واستغاثة الصلاة شعور بالقداسة والجلال والحب والفناء.
وجود طبق مطهي من الطعام يدل على طاهي، وصناعة دواء مركب العناصر يدل على صيدلي دقيق أجاد أعمال التكوين والتركيب هكذا يسلم العقل لقانون المنطق بأنه لابد هنا من فاعل تدخل في هذه الأشياء وليست مجرد مصادفات أحدثت هذا.. أسلم في هذا الأشياء بوجود صانع ولا أسلم بصانع ومبدع لفكرة هندسة الكون الدقيقة القائمة على دقة النسب المنظمة لأبعاده المترامية.
وحدة الوجود ووحدة الموجد
وإذا كان أرسطو قال قديما بفكرة الإله الفاعل الأول والخالق الأول ليخرج من دائرة التسلسل إلى لا نهاية، فإن العقلانية المنكرة تقول: إذا كنت قلت بأن هناك خالق أول أو فاعل أول أو قل مبتدئ وُجد بذاته دون سبب أو فاعل يُسمى إله، فلماذا لا نقول بأن الكون أو الوجود وُجد بالطريقة نفسها بذاته دون محدث دون فاعل؟؟ ويسترسل قائلا إذا كنت تؤمن بأن الله وجد بذاته فإنى عقلي يدفعني إلى القول بأن الوجود أو الكون أو الحياة وُجدت بذاتها..
ويرد المنطق على صاحب العقل المنكر بأن هناك إشكالية منطقية في هذا الطرح يأباها العقل وهي أنه جعل من الوجود خالقا ومخلوقا في وقت واحد، جعلته هو صانع ذاته، كل شئ يبدأ من نفسه وينتهى عندها، فإن كان صاحب العقل المنكر دوما من يطرح الأسئلة، فهو في حاجة لتبادل الأدوار والإجابة عن هذا السؤال: كيف يصبح المخلوق والخالق شيئا واحدا اسمه الوجود؟ قمة التناقض حين تجعله خالقا مُبدأ ثم فى الوقت نفسه تسلبه ذلك، فتثبت له النقيض وهو كونه مخلوقًا” فتقول من خلق الله الخالق؟
ويقول العلم لصاحب العقلانية المنكرة لوجود الله أن فكرة وحدة الوجود تقتضي أزلية وجود الكون فإذا لم يكن له خالق فمعنى ذلك أنه أزلى أول لا شئ قبله، وهذا يرفضه العلم الذى يقول بقانون الديناميكا الحرارية الذى يرى أن الحرارة تنتقل من الساخن إلى البارد.. من الحرارة الأعلى إلى الحرارة الأدنى حتى يتعادل المستويان فلو كان الوجود أزليا لتوقفت الحياة ببرودة وتعطل قانون الانتقال الحراري.
وليس وحدة المادة التى تشكَّل منها الكون دليلا على وحدة الوجود، “فالحقيقة المؤكدة التى يقولها العلم أن هناك وحدة في الخامة لا أكثر.. وحدة في النسيج والسنن الأولية والقوانين.. وحدة في المادة الأولية التى بني منها كل شئ.. فكل الحياة من نبات وحيوان وإنسان بنيت من تواليف الكربون مع الإيدروجين والأكسجين.. ولهذا تتحول كلها إلى فحم بالاحتراق، وكل صنوف الحياة تقوم على الخلية الواحدة ومضاعفاتها… وأن جميع تلك العناصر جاءت من طبخ عنصر واحد في باطن الأفران النجمية الهائلة هو الأيدروجين.”
وهذا ليس دليلا على وحدة الوجود بل دليل على وحدة الموجِد، إن “الوحدة بين الموجودات تعنى وحدة خالقها، ولكنها لا تعنى أبدا أن هذه الموجودات فى ذاتها الخالق. ولا يقول الناقد أبدا إن هذه الرسوم هي الرسام”.
العلم يقودك إلى ما وراء الطبيعة!
العلم يقرّب للعقل فكرة الإيمان بالملائكة والجن واستمرارية وجود الروح بعد الموت، فحين يكتشف العلم أنه حين تنطفئ الشمعة لا ينطفئ نورها، وأنه يظل ينتقل ملايين السنين في الفضاء حيث يمكن أن يلتقط ويشاهد، وملايين النجوم المنيرة في السماء انتهت وتلاشى وجودها لكن نورها لم ينطفئ كما قال علماء الفلك فكيف بالإنسان حين يموت الجسد هل يمكن أن تنطفئ روحه وتتلاشى، وإذا كان العلم يقول لو سرنا بسرعة الضوء لرأينا شعاع الضوء الذي يسير بجانبنا له ملمس ومظهر المادة الصلبة، فإنه يقرب لنا وجود أشياء لا نملك رؤيتها لطبيعتها الخفية علينا، وكأننا لو سرنا بسرعة الأرواح لرأينا الأرواح أجساما تسير بجانبنا لها ملمس ومظهر المادة الصلبة.
حين يتحدث أينشتين عن عالم رباعي الأبعاد لم نصل إليه يُقرِّب إلينا ما أخبرنا به الغيب من عوالم الأرواح والملائكة والجن كعوالم أخرى بأبعاد مختلفة عن الأبعاد الثلاثية الحاكمة لعالمنا، حين يصل العلم إلى قانون: كلما كانت الذبذبة أسرع والموجة أقصر كانت أكثر نفوذا واختراقا وأكثر خفاء عن الحواس فهو يقرّب إلى العقل فكرة اختراق الأرواح لعوالمنا ومع ذلك لا نسمعها ولا نراها.
العلم والعقل لا يُنتظر منه أن يقول لنا أن الروح مادة أكثر لطفا من مادتنا، ولا ينتظر منه أن يكتشف عوالم الجن والملائكة بالتجربة والدليل العلمي؛ لأن هذا يستحيل إيمانا لأن افتراض حدوث مثل هذا ينقل الغيبيات من عالم الغيب إلى عالم الطبيعة (المادة)، وينتفى معه وجود عالم الغيب.. غاية ما يؤكده العلم أن هناك عوالم افتراضية لا يعرف عنها العلم شيئا، بهذا يفتح العلم بابا للغيب؛ ليقربه إلى العقل.. علاقة العلم بالمادة والطبيعة (الكون) وما تؤكده من غيبيات يعجز العلم عن الوصول إلى كنهها منطلق لقبول العقل للإيمان ب “ما وراء الطبيعة “.. الله وعالمه السمعي الذي نقلته لنا النبوات.
الهامش:
[1] – إضافة المحررة
_____________________________________
** أستاذ اللغة العربية وآدابها المشارك بجامعة الأزهر الشريف – جمهورية مصر العربية