كانت سيرة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم مثالاً يُحتَذَى في كل شيء، كانت مثالاً للفرد والجماعة، وكانت مثالاً للمجتمعات الصغيرة والكبيرة، وكانت مثالاً واضحًا لبناء الأمم…
د. راغب السرجاني
يقول الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير مخاطبًا رجال الدين في الكنيسة: “لقد قام الرسول بأعظم دور يمكن لإنسان أن يقوم به على الأرض، إن أقل ما يقال عن محمد أنه قد جاء بكتاب وجاهد، والإسلام لم يتغير قط، أما أنتم ورجال دينكم فقد غيرتم دينكم عشرين مرة“.
إنَّ استيفاء الحديث عن رسول الله أمر شاق؛ فالمواقف الجليلة والأحداث العظيمة في حياته يصعب -بل يستحيل- حصرها، فكل لحظة من لحظات حياته تحمل كنوزًا من الخير والكمال.. ولكننا سنسدد ونقارب إن شاء الله.
وقبل أن نتحدث عن الرحمة في حياته صلى الله عليه وسلم، لا بد أن نتحدث عنه هو شخصيًّا…
إنني على يقين أنه ليس هناك رجل في التاريخ منذ نزول آدم إلى هذه الأرض وإلى زماننا الآن، بل وإلى يوم القيامة، نال -أو سينال- حبًّا وتقديرًا وإجلالاً واحترامًا مثلما نال رسول الله صلى الله عليه وسلم…
لقد كانت سيرة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم مثالاً يُحتَذَى في كل شيء، كانت مثالاً للفرد والجماعة، وكانت مثالاً للمجتمعات الصغيرة والكبيرة، وكانت مثالاً واضحًا لبناء الأمم.
لقد كان تغييرًا هائلاً ذلك الذي أحدثه نبي الرحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا، ولا شَكَّ أن دراسة تجربته ليست فقط أمرًا مُفضَّلاً، أو مُحببًا، ولكنها أمر واجب على كل مسلم أراد النجاة في الدنيا والآخرة، وأراد لأمته العزة والكرامة والسيادة والريادة، بل إنها ضرورية لغير المسلمين ممن يعيشون في أي بقعة من بقاع العالم! كم من الخير سيفوت أهل الأرض إن لم يدرسوا سيرته ؟! وكم من كنوز العلم ستُهدَر إن غفل الناس عن التدبر في حياته؟!
إنَّ أقوال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته لَمِيراثٌ هائل لكل طلاب الحقيقة في العالم، ولكل الباحثين عن خيرٍ أو إصلاح..
لقد بُعِث نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم في أُمَّة مُفرَّقة مُشتَّتة، فَشَا فيها الظلم، وتعددت فيها صور الباطل، وكثرت فيها الآثام والشرور، وتمكَّن فيها المتكبرون والمتجبرون، فبدأ في أَنَاةٍ عجيبة، يغيِّر الأوضاع، ويُعدِّل من المسار.
ما ترك نبي الرحمة معروفًا إلا وأمر به، ولا منكرًا إلا ونهى عنه، ولم يكن طريقه ناعمًا، بل كان مليئًا بالصعاب والأشواك، وعارضه الكثيرون، وحاربه القريب والبعيد، حتى حاربته عشيرته، وقاومه أهله، فما لانت له قناة، وما فترت له عزيمة.
لقد بنى نبي الرحمة أمته بناءً راسخًا، وبخطى ثابتة ومنهج واضح، يستطيع كل صادق أراد لأمته القيام أن يحاكيه، ويقتدي به.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى المَحَجَّة الْبَيْضَاءِ، لَيْلِهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلاَّ هَالِكٌ” (رواه ابن ماجة).
أخلاق نبي الرحمة
كان نبي الرحمة ذو شخصية مبهرة حقًّا!! وقد ظل محافظًا على هذا الإبهار منذ الميلاد وإلى الممات، وهذا أمر عجيب حقًّا، لا يُفَسَّر إلا بكونه رسولاً من رب العالمين معصومًا من الآثام والخطايا، لا أثر للشيطان عليه من قريب ولا بعيد وتدبروا جيدًا في حياته..
إنه لم يكن رسولاً فقط، ولكنه كان حاكمًا، وقائدًا، وزعيمًا كذلك، وعلى الرغم من هذه الدرجة المرموقة إلا أنه عاش مع صحابته، وأتباعه كواحد منهم، ما تفاضَلَ عليهم بطعام، ولا بشراب، ولا بسكن، ولا بمال.. لقد تحمل معهم الأذى في كل موضع، جاع معهم كما يجوعون، بل أكثر، وتعب معهم كما يتعبون، بل أشد.. حُوصِر معهم، وهاجر معهم، وقاتل معهم، بل كان أقربهم للعدو..
ما فَرَّ يومًا في حياته، لا في أُحُد، ولا في حُنَين، ولا في غيرهما.. لم تزده كثرة الأذى إلا صبرًا، ولم يزده إسراف الجاهلين إلا حلمًا.. ما غضب لِذَاتِه قط، وما انتقم لنفسه أبدًا، إلا أن تُنتَهَك حُرمةُ الله فينتقم حينئذٍ لله.
كان كريمًا واسع الكرم، لم يرد سائلاً قَطُّ.. جاءت له الدنيا راغمة، فأنفقها كلها في سبيل الله، ولا عُرِفَ عنه قَطُّ أنه اختص نفسه بشيء، دون أصحابه وأتباعه.
كان كثير المخالطة لشعبه، لم يعتزل عنهم أبدًا، كان يجالس الفقراء، ويرحم المساكين، وتسير به الأَمَة في شوارع المدينة أينما شاءت، وكان يعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويخطب الجُمَع، ويعلِّم الدروس، ويزور أصحابه في بيوتهم، ويزورونه في بيته، وهو في كل ذلك دائم الابتسامة منبسط الأسارير، متهلل الوجه.
كان رحيمًا بأمته تمام الرحمة، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه، كان كثير العفو حتى عَمَّن ظلمه وبالغ في ظلمه، وكان واصلاً للرحم، حتى لمن قَطع رحمه، وبالغ في القطع.
ولم تكن عظمة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم في معاملاته مع الناس فحسب، أو في أخلاقه الكريمة فقط، ولكنه كان سياسيًّا بارعًا، وقائدًا حكيمًا، وخطيبًا مُفوَّهًا، لا تفوت عليه صغيرة ولا كبيرة، تفيض الحكمة من فمه، أُوتِيَ جوامع الكلم، يتكلم بالكلمات القليلة، فيمكث العلماءُ والحكماءُ الأعوامَ والقرون يستخرجون المعاني الهائلة منها..
يحاور كأفضل ما تكون المحاورة، ويفاوض فما يتنازل أو يَزِلُّ أو يظلم أو يغضب.. يستعين بأصحابه ويشاورهم مع رجاحة عقله عنهم، وارتفاع منزلته فوقهم.. ما يُسَفِّه رأيًا، ولا ينتقِصُ أحدًا.. الحكمة ضالَّتُه، أينما وجدها أخذها، ما دامت في حدود الشرع.
وكانت عظمته الحقيقية في أنه اتَّصف بكل هذه الصفات الحميدة، وغيرها، في كل مواقف حياته.. لقد رأينا هذه الصفات في مكة، ورأيناها في المدينة، رأيناها في سلْمِه، ورأيناها في حربه، رأيناها وهو مُطارَد ومُضطَهَد، ورأيناها وهو حاكم مُمَكَّن، رأيناها وهو يتعامل مع أَحَبِّ أصحابه، وكذلك رأيناها وهو يتعامل مع أَلَدِّ أعدائه.
كانت حياته صلى الله عليه وسلم كلها على هذه الصورة البهية النقية، حتى انبهر به أعداؤه قبل أصحابه، وحتى عظَّمه وبَجَّله وقدَّره من سمع عنه، ولم يره، بل من لم يعاصره أصلاً، بل فعل ذلك الكثير من غير المسلمين!.
يقول “لا مارتان” الشاعر الفرنسي المتميز: “من ذا الذي يجرؤ من الناحية البشرية على تشبيه رجل من رجال التاريخ بمحمد؟!! ومن هو الرجل الذي ظهر أعظم منه، عند النظر إلى جميع المقاييس التي تقاس بها عظمة الإنسان؟ إن أعظم حدث في حياتي هو أنني درست حياة رسول الله محمد دراسة وافية، وأدركت ما فيها من عظمة وخلود“.
ويقول “جوته” الشاعر الألماني الشهير: “بحثت في التاريخ عن مثلٍ أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبي العربي محمد“.
__________________________________________________
المصدر: بتصرف يسير عن موقع قصة الإسلام http://islamstory.com/ar/%D9%86%D8%A8%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD%D9%85%D8%A9