كان جارودي مشروع “مثقف القرن” بفرنسا لولا حدث قلب حياته رأسا على عقب هذا الحدث هو “اعتناقه الإسلام”…
سلمان بو نعمان
أضحت ظاهرة المتحولين إلى الإسلام في الغرب ملفتةً للنظر، فأعداد الغربيين الذين أسلموا ويسلمون باتت مدهشةً للغاية، ولم يعد الأمرُ مقصورًا على فئةٍ دون أخرى، بل إنً المتحولين إلى الإسلام في الغرب ينتمون إلى الجنسين معًا، وإلى مختلف المستويات العلمية والأكاديمية.
فلم يعد اعتناق الإسلام محصورا في الدوائر الضيقة من بعض الفئات الاجتماعية العادية، بل أصبح يتغلغل داخل أوساط النخبة الغربية المثقفة. فخلال العقود الثلاثة المنصرمة دخل الإسلام العديد من المفكرين والمثقفين، من أدباء وفنانين وفلاسفة ومفكرين وأساتذة جامعات وسياسيين.
نذكر منهم على سبيل المثال: الفيلسوف السويديِّ هوجان لارسون الذي أعلن عن إسلامِه في السويد مؤخرا، ونستحضر الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي، والعالم والطبيب الفرنسي موريس بوكاي، والكاتب النمساوي محمد أسد، والدبلوماسي والسفير الألماني مراد هوفمان، والمغني الإنجليزي كات ستيفنس(يوسف إسلام)، والداعية الاسكتلندي عبد القادر الصوفي، والكاتبة الأمريكية مريم جميلة، والدبلوماسي الانكليزي غي إيتون، والمستشرق الانكليزي مارتن لنغر، والكاتبة الانكليزية عائشة بويلي، والكاتبة الاسترالية جميلة جونز، والأنثروبولوجي الألماني أحمد فون دينفر، وأستاذ الرياضيات الأمريكي جيفري لانغ…وغيرهم كثير.
فقد أصبح يساهم هؤلاء في تطوير الفكر الإسلامي عموما من خلال كتاباتهم ومقالاتهم ومحاضراتهم، ويختص هؤلاء بنوع متميز من الأدب هو شهادات اعتناقهم الإسلام، وكيفية انتقالهم وتحولهم؛ يبرز ذلك من خلال سير حياتهم وكيفية تعرفهم إلى الإسلام، وسر انجذابهم له، غير أنه تختلف في هذه القصص نظرة كل فرد الخاصة إلى الواقع والمجتمع والمعايير والاختيارات.
كما تتضمن قصصهم في الغالب نقدا عميقا للفكر المادي الإلحادي وللديانة المسيحية أو اليهودية، متفاعلين بعقول ناقدة ويقظة مع منتجات الحضارة الغربية وإشكالات الثقافة الأوروبية في مختلف الأبعاد الفلسفية والتاريخية والفكرية والسياسية.
إن نقد المعتنقين الجدد للمجتمع العلماني الغربي والثقافة الغربية يمثل قضية فكرية مركبة تعبر عن عمق الأزمة الفكرية التي يواجهها الفرد الغربي المعاصر، إذ ينتقدون المنظور المادي للمجتمع ويجادلون في نتائج عمليات العلمنة والتحديث والتمدن في المجتمع الغربي المعاصر، مفككين عجز المنظومة الغربية المادية عن إرضاء حاجات الإنسان الروحية. ومن ثم كان اعتناقهم للإسلام بوصفه فلسفة حياة كاملة عبارة عن إجابة مركبة على مشاكلهم المعرفية وأسئلتهم المتعلقة بهدف ومعنى الحياة الإنسانية، إذ منحهم الإسلام نظرة جديدة إلى العالم تفسر العلاقات المتبادلة بين الفرد والمجتمع والكون.
لقد بحث المفكرون الغربيون من علماء وفلاسفة ومثقفين عن نظرة جديدة للعالم عندما عجزت ثقافتهم ومجتمعهم وإلحادهم عن الاستجابة لحاجاتهم الفكرية وتساؤلاتهم الفلسفية. فإذا ما وجدوا أن نظاما فكريا معينا يمنحهم تفسيرات مقنعة وحلولا مقبولة للتساؤلات التي تشغل أذهانهم، وتزودهم بنظرة عالمية كاملة، فسينهمكون فيه، وسوف يستجيبون له، ويتفاعلون مع هذا النظام الفكري. وبعد ذلك، فلن يترددوا في تباع قواعده ومبادئه حتى لو أدى ذلك إلى أن يقودهم إلى اعتناقه.
وهكذا يبحث الإنسان الغربي في رحلته البحثية والقلقة عن رؤية جديدة للعالم، ومن ثم كان اعتناق الإسلام عندهم يعني الانفصام عن الرؤية المادية للعالم العاجزة عن تقديم أجوبة لقضايا الموت والحياة الآخرة وخلق الكون. وسنقتصر هنا على مفكر، كان لتحوله إلى الإسلام أثرا كبيرا في الغرب والشرق، هو الفيلسوف الفرنسي العملاق روجي جارودي.
جارودي.. فيلسوف القرن العشرين بفرنسا
كان جارودي مشروع “مثقف القرن” بفرنسا لولا حدث قلب حياته رأسا على عقب هذا الحدث هو “اعتناقه الإسلام”. سنتعرف على طبيعة هذا التحول، والانعطافات الأساسية فيه، ومنهج إدراك جارودي للإسلام بوصفه رؤية حضارية للعالم والمجتمع والدولة. إن أهم ما في حياة “جارودي” ليس بالقطع تاريخه النضالي السياسي ضد النازية أو تمرده على قناعاته الشيوعية الموالية للاتحاد السوفيتي، ولكن في اعتباره من أبرز الفلاسفة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي إلى غاية حلول الألفية الجديدة.
منذ سنة 1933 انتمى “روجيه جارودي” للحزب الشيوعي الفرنسي معتقدا “أن الشيوعية كانت الاختيار الوحيد الذي يطرح بديلا للخروج من أزمة الرأسمالية. كما كانت أفضل جبهة تقاوم هتلر والنازية في هذه الفترة، ففي فرنسا -على سبيل المثال- كان معظم المشتغلين بالكتابة والفنون وأساتذة الجامعات، وحائزي جائزة نوبل: إما أعضاء في الحزب الشيوعي أو أصدقاء للشيوعيين. وذلك بسبب الحالة السيئة التي نشأت عن أزمة الرأسمالية وتيار المقاومة لنازية هتلر. وقد كان جارودي موقنا بأن الحضارة الغربية ستقود البشرية إلى مستقبل مدمر ما لم تنسجم مع الحضارات الأخرى. ليستنتج أن سر النجاة يكمن في الديانات.. إنه نداء الإيمان، فالدين هو طريق للتفكير والاعتقاد.
وكان جارودي يبحث عن إيديولوجيا توفر السلام والأمن للبشرية، وتمنح الانسجام بين الأخلاق والسياسة، بين الروح والمادة، بين الفرد والمجتمع، بين الثقافات الغربية وغير الغربية؛ أي أيديولوجيا عالمية تضم كل البشر…دين يسمو فوق القومية والوطن واللغة والمستوى الاقتصادي للحياة.. دين يمنح الحياة الإنسانية معناها الحقيقي، وقد وجد جارودي في الإسلام النموذج لنوع من الحوار التوفيقي الذي كان مشغولا به طوال ثلاثين عاما.
برز التوجه الماركسي بقوة في مقولات جارودي من خلال أطروحة الدكتوراه التي أحرز عليها في فرنسا والمعنونة ب”النظرية المادية في المعرفة”، فضمنها أدرج غارودي أهم الموضوعات التي تناولها “كارل ماركس” و”فريديريك انجلز” و”لينين” و”ستالين” و”ماوتسي تونغ” باعتبارهم شخصيات منظرة للفلسفة المادية، مؤكدا أن الفلسفة المادية علمية ترتكز على ثلاث أسس:
أولا– أن حوادث العالم هي الأوجه المختلفة للمادة المتحركة.
ثانيا– أن المادة هي الواقع الأول، وما إحساساتنا وفكرنا إلا نتاج الواقع وانعكاس له.
ثالثا– أن المعرفة المثبتة بالتجربة وبالممارسة العملية، يمكن أن تدمج بصورة تامة في العالم باندماجها في قوانينه، فتشكل مع باقي مكوناته وحدة تتفاعل معها في إطار التأثر والتأثير.
وعلى هاته الأسس التي تمثل القاعدة المادية لنظرية المعرفة مضى “جارودي” يتحدث عن الحركة وقوانينها العامة بوصفها العامل المحرك في عملية التغيير والتبدل والتحول. وفي هذا الإطار نجده يعتضد بنظرية “داروين” في التطور ليوضح أصل الحياة ونشوء الأجناس >>> يتبع
___________________________________________________
المصدر: مركز نماء للدراسات والأبحاث
http://nama-center.com/ActivitieDatials.aspx?id=113