إعداد/ نهال محمود مهدي*
تم اختيار الرابع عشر من شهر نوفمبر من كل عام ليصبح “اليوم العالمي لداء السكري”، وهو تاريخ حدده كل من الاتحاد الدولي للسكري ومنظمة الصحة العالمية لإحياء ذكرى ميلاد “فريديريك بانتينج”[i] الذي أسهم مع “تشارلز بيست” في اكتشاف مادة الأنسولين عام 1922م، وهي المادة التي باتت ضرورية لبقاء مرضى السكري على قيد الحياة.
وإذا كانت منظمة الصحة العالمية قد قررت الاحتفاء بهذين العالمين وبإسهامهما العظيم في مجال علاج السكري.. فمن الواجب علينا أن نذكر بأن لعلماء العرب والمسلمين دور تاريخي رائع في تشخيص ذلك المرض – من آلاف السنين- والتعامل معه.
وقبل استعراض دور علماء المسلمين في ذلك المجال علينا أن نشير إلى تاريخ المرض عبر العصور القديمة في ومضات سريعة..
الحضارة الفرعونية
عرف الفراعنة مرض السكري من خلال وصفهم للمرض حيث ذكر عالم الآثار “قوليونجي” في كتابه (السحر وعلوم الطب عند المصريين القدماء) أن المصريين القدماء ذكروا مرض السكري وارتباطه بكثرة التبول من خلال ما كشفته ورقة البردي المسماة (كاهون)، حيث ذكرت عبارة عطش النساء وهو ما يرمز إلى مرض السكري وارتباطه بالشعور بالعطش[ii].
وقصة معبد بومبي بإيطاليا المشهورة، تدل على أنهم عرفوا مرض السكري ولكن فسروه تفسيرا خاطئا له علاقة بتلبس الأرواح الشريرة بالبدن.[iii]
في الحضارتين الهندية والصينية القديمتين
وصف علماء الحضارة الهندية القديمة (1400 ق.م.) مرض السكري بالجوع والعطش والبول الحلو مع تنميل الأطراف، كما قام علماء الحضارة الصينية القديمة (2000 ق. م.) بتذوق البول لتشخيص مرض السكر وأسموه “بول العسل” -ولهم يرجع الفضل في اكتشاف المرض، واستخدموا نباتات طبية للعلاج.
الحضارة الإسلامية
وصلنا إلى العصر الإسلامي الذي رافق تطور الطب فيه تطور مجمل النتاج الحضاري في الدولة الإسلامية، وقد كان لحركة التعريب والترجمة أثر كبير في هذه النهضة الطبية، وهذا ما جعل العلماء المسلمون والعرب يتابعون ما بدأه علماء الغرب، ومن ضمن ما عملوا على شرحه وتفسيره كان مرض الداء السكري.[iv]
اتجه علماء الحضارة الإسلامية إلى المنهج التجريبي الاستقرائي عن خبرة ودراية بأصوله وقواعده، وأحرزوا على أساسه تقدما ملموسا في حركة التطوير العلمي والتقني[v].
ولعل من أبرز علماء المسلمين الذين ساهموا في هذا المجال: أبو بكر الرازي وابن سينا وعبد اللطيف البغدادي.
- وصف الرازي وابن سينا وعبد اللطيف البغدادي مرض السكري بكثرة التبول مع العطش الشديد وكثرة شرب الماء. وتحدثوا عن ضعف الجسم والبنية والهزال الشديد. وهي نفس الأعراض التي وصفها علماء الطب في العصر الحديث.
- ذكر عبد اللطيف البغدادي أن ضياع رطوبة الجسم يعد سببا من أسباب المرض. وذكر أيضا أن هناك موادا تفرز من الكبد تؤثر على الكلى فلا تتحملها، وبذلك يحدث إدرار البول وهذا مقارب لما وصفه العلماء في العصر الحديث من اختلال في وظيفة البنكرياس، من ارتفاع نسبة السكر في الدم جراء تكوين الجلوكوز في الكبد من البروتينات وخلافه، فإذا زاد الجلوكوز عن 180 مجم % لا تحتمله الكلى وينزل مع البول مع أعراض كثرة التبول والعطش وكثرة شرب الماء. ويبقى مع التقدم الهائل الآن أن الأسباب الحقيقية لمرض السكري مجهولة.
توصيات علاجية
أوصى علماء المسلمين السابق ذكرهم بتنظيم الغذاء والاعتماد على أكل الخيار والفواكه والمواد القابضة التي تقلل من إدرار البول. وأوصوا أيضا بالتمارين الرياضية وخاصة على ظهر الحصان. وأوصوا بتناول العلاج والانتظام فيه، ووصفوا بعض النباتات الطبية المتاحة في عصرهم.
ولفت ابن سينا النظر أيضا إلى أهمية العلاج النفسي واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى كوسيلة من وسائل العلاج. كما أوصى أيضاً عبد اللطيف البغدادي بالاسترخاء والراحة النفسية في العلاج. وأوصى أبو بكر الرازي الأطباء بأن المقابلة نصف العلاج وذلك دعوة إلى أهمية الكشف الطبي السريري على المريض ومحاولة تشخيص المضاعفات مبكرا والتعامل معها، خاصة وقد اشتهر الرازي بالدقة والبراعة في الملاحظات الإكلينيكية، وإظهاره اهتماما بالغا بالفحص السريري وما يمكن أن يدونه الطبيب من ملاحظات هامة خلال ذلك الفحص[vi].
أسس العلاج الحديثة
وأسس العلاج في العصر الحديث تتمثل في مثلث الأمان: الحمية الغذائية والرياضة والعلاج. وأضاف علماء المسلمين الأساس الرابع وهو: الإيمان بالله واللجوء إليه بالدعاء والاسترخاء النفسي والهمة العالية التي تعين على كل تلك الوصايا وهذه ميزة علماء المسلمين في كل العصور. وهذه دعوة لأطباء المسلمين ألا يغفلوا الجانب الإيماني في العلاج. وبالطبع حدث تقدم هائل في تشخيص وعلاج مرض السكري في العصر الحديث وخاصة بعد اكتشاف الأنسولين وزراعة البنكرياس، ولكن يظل ما قدمه علماء المسلمين علامة بارزة مضيئة وقيمة تاريخية بالمقارنة مع إمكانيات عصرهم، فقد ساهموا مساهمات بارزة في التقدم الحاصل الآن[vii].
الهوامش:
- فردريك غرانت بانتنغ (Frederick Grant Banting) طبيب كندي، ولد في 14 نوفمبر 1891 وتوفي في 21 فبراير 1941، حصل على jpg جائزة نوبل في الطب لعام 1923 مناصفة مع الأسكتلندي جون مكليود.اكتشف علاج مرض السكر الإنسولين عام 1921. اقتسم بانتنغ نصيبه المالي من الجائزة مع تلميذه وشريكه في أبحاثه تشارلز بست الذي لم تشمله الجائزة بشكل رسمي لكونه طالباً في ذلك الحين، كما اقتسم مكليود جائزته مع ج. ب. كوليب J. B. Collip الذي ساعده فيما بعد في تنقية الإنسولين.
- دور العلماء المسلمين في تقدم العلوم، الموسوعة الحرة “ويكبيديا”.
- كانوا يعتقدون أنه لابد لكل فرد أن يجمع بوله في إناء حتى يضمن عودته من جديد بعد وفاته. وكان لكل فرد إناء خاص يجمع فيه بوله، وجعلت حراسة شديدة على هذه الآنية. ولاحظ الحراس أن بعض الأفراد وهم قلة يأتي الذباب على آنيتهم ثم ما يلبثوا أن يموتوا، فاستنتجوا أن هؤلاء الأشخاص قد حلت بهم الأرواح الشريرة، ثم أمر القس بفحص بول الأفراد بعد ذلك، فإن وجد أنه من البول الحلو الذي يتجمع عليه الذباب تم إخراج صاحبه من المعبد، وأخرج إناؤه معه حتى لا تؤثر الأرواح الشريرة على باقي الأفراد. وما زال هذا المعبد من المعالم الأثرية في مدينة بومبي الإيطالية حتى الآن.
- “الداء السكري في الطب الإسلامي”، إعداد الدكتور عبد الناصر كعدان، والدكتور محمد الحاج علي، الفصل الثالث:الداء السكري في المفهوم الطبي الإسلامي، ص:11.
- من المآثر العلمية للمسلمين : تأسيس منهجية البحث العلمي، أحمد فؤاد باشا، الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
- ابن النفيس واتجاهات الطب العربي الحديث، د.بركات محمد مراد، الصدر للطباعة والنشر، القاهرة عام1990م، ص:22بتصرف.
- دور العلماء المسلمين في تقدم العلوم، مرجع سابق.
__________________________
* باحثة وأكاديمية مصرية