أ.د. عبد الباسط هيكل* (خاص لموقع الباحث عن الحقيقة)
يمتلك الإلحاد أسئلة، ولا يمتلك أجوبة.. يحرك الملحد حالة من الشك في كل شئ، فلا يوجد عنده منطقة ثابتة يرتكز عليها، لأنه يرتكز على الحقيقة العقلية وهي نسبية متغيرة، وتختلط عنده قوانين التعرف على الطبيعة بقوانين التعرف على ما وراء الطبيعة؛ فآدم –عليه السلام- من منظور العقل الملحد مثل مادة الحديد أو الفوسفات لن يصبح حقيقة إلا إذا اكتشفت في باطن الأرض آثارا مادية من نقش ونحوه تُشير إليه!
وفي الوقت الذي يرى فيه الملحد في قصة آدم أسطورة تحكى بداية الإنسان، لايقدم لنا جوابا بديلا يحكى النشأة الإنسانية الأولى التى حكتها الديانات السماوية؛ لأن العلم لا يملك أن يقول الكلمة الأخيرة في بداية نشأة الإنسانية ولا مسار نموها، وكل ما يملك هو افتراضات مازالت موضع البحث، وتستمر تلك الحالة من طرح المؤمن على الملحد أسئلة لا يملك جوابا لها، فلو أعدت عليه أسئلة من باب: من أين أتينا؟؟ ماذا بعد الموت؟؟ فلن تجد عنده جوابا.. بل بعض افتراضات ينتظر من العلم أن يحسمها منذ مئات السنين، فهو في حالة انتظار وترقب وشك، والمؤمن في حالة ارتياح ويقين بإجابات الوحي عن عالم الغيب.
احتقار الإلحاد للإيمان
الإشكالية ليست في الإلحاد قدر كونها في احتقار الإلحاد للإيمان، المؤمن يسلّم بأن رسالته ليست هداية قسرية للعالم “لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ” (البقرة:272) فهذا ما لم يستطعه النبيون، فمهمة المؤمن تقف عند حدود التبليغ قولا وسلوكا، “فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ” (الغاشية:21-22)، ولا يروع المؤمن خطاب الإلحاد اليوم وإن ارتفع صوته، وكأنها نهاية العالم؛ فالقرآن الكريم حكى خطاب المنكر والمؤمن في حوارات النبيين مع أقوامهم ليهيئ العقل المسلم لهذين الخطابين المتكررين ما دامت الدنيا، وكأنه –كذلك- يؤكد لأتباعه التزام مبدأ الحوار وعدم التعصب بدافع من محاولة حمل الناس على الهداية، فقد عاتب الله نبيه –صلى الله عليه وسلم- حين حمله حرصه على هدايتهم إلى التعصب مرة، فخاطبه القرآن الكريم “إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ” (الأنعام:35).
فالدين لا يحث على تعصب، ولا يصنع صراعا كما يُروج الملحد من ادعاءات مفادها أن الأديان سبب صراعات الأرض، فأكثر الحروب دموية لم يكن شعار الدين حاضرا فيها، حتى الحروب الدينية رُفع شعار الدين فيها ليغطي على أطماع ملوك في ثورات وخيرات البلاد المغتصبة، إن الذي يثير التعصب ويؤجج الصراع حقيقة هو محاولة الخطاب الإلحادي لإزاحة الدين، ففي الوقت الذي يدعي فيه أنه يريد أن يخمد صراع الأديان يشعل صراعا آخر بين الإيمان والإلحاد.
إشكالية أخرى متكررة في زعم أن العلم والإلحاد وجهان لعملة واحدة اسمها الحضارة الحديثة، وهذا طرح ينافي الصواب؛ فالحركة العلمية التى قام عليه منهج التجريب الغربي قامت على نتاج علماء أنتجوا في ظل حضارة إسلامية خيارها الإيمان، كما أن حضارة الغرب الحديثة بنزعتها المادية الطاغية لم تصنعها عقول ملحدة بصورة كلية، فهناك عدد كبير من المؤمنين بالله مع اختلاف دياناتهم فاعلين في بناء تلك الحضارة يتجاوز عددهم مئات الآلاف.
قلب القواعد واختلال القيم
من الإشكاليات التى تواجه الإلحاد أنه يفرّغ الحياة من كل معاني السمو والعدل والفضيلة، فإذا انحصرت حياة الإنسان في حياة دنيا تنتهى؛ فينتهى معها كل شئ، فهذا ترسيخ لمنطق الصراع والغلبة للأقوى.. للأكثر استحواذا ولو ظلما وكذبا واحتيالا، ستنقلب كل قواعد المثل والقيم، فيكون مفهوم الأفضل للأقوى وليس الأعدل، تمسى الانتهازية ميزة، والأثَرة غاية، وما دام الإنسان قادرا على الهروب من قانون البشر فهو في مأمن من المساءلة، فليس هناك مكان –وفق هذا المنطق الإلحادي- لقانون سماوي أخروي، كيف تستطيع الفضيلة أن تعيش!
وكيف يمكن للضمير أن يتحدث! إذا كنا جميعا سنتساوى بالموت، مثل هذا المنطق يحوّل الإنسان إلى كائن باحث عن اللذة بلا رقابة داخلية، لأن أمامه فرصة محدودة بحياته في الدنيا يغتنمها قبل أن تنتهى بالموت، منطق الإلحاد يفتح الباب لانتحار الجنس البشري، لماذا يُبقي العاجز أو اليائس على حياته، لماذا يتمسك المظلوم أو المطحون بالحياة رغم مرارتها، ولا يفكر في السعي نحو الموت!! إن حياة تنتهى بالموت، ولا بقاء بعدها، هي حياة لا تستحق أن يحياها.
كيف تكون الدافعية الداخلية إذا لم تكن للإنسان حياة إلا الدنيا، ليس أمامه ولا خلفه إلا الدنيا يأخذها غلابا وينتهى كل شئ بالموت، ويتساوى الجميع.. الظالم والمظلوم، الغالب والمغلوب، القوي والضعيف، حين نقرر أن نتعايش في الدنيا بمنطق المنكر لكل حياة بعد الموت، فنحن نرسي لمبدأ الصراع وتكون الحياة منطقيا تسير بقواعد الغاب.. الاستمرار للأقوى..
إذا كان الظمأ إلى الماء يدل على وجود الماء.. فلابد أن الظمأ إلى العدل يدل على وجود العدل.. ولما كان العدل المطلق مستحيلا في دنيا البشر.. كان من الثابت عقلا ضرورة وجود يوم وساعة تنصب فيها موازين العدل، لم يتعلم الإنسان الشعور بالحاجة إلى الماء، وكذلك لم يعلمه أحد ضرورة الاحتياج إلى عدالة، الأول يدركه الجسم ويحرك الإنسان لطلب الماء، والثاني تدركه النفس متى اكتمل تكوينها العقلي وتبحث عنه.. من السهل أن يجد الإنسان الماء، لكن أين يجد العدالة المطلقة؟؟ الإلحاد يصطدم مع صوت داخلي في كل نفس بشرية تتطلع إلى ميزان من نوع مختلف، ميزان لا يعرف الخلل، وقاض لا يعرف الخطأ، كيف يمكن أن يتحقق ذلك دون حديث عن حساب وقصاص في يوم عدل؟
والمؤمن ليس مطالبا أن يقدم تصورا كاملا لتفاصيل ذاك اليوم، فلا نعرف عنه من المعانى إلا بقدر ما تشير إليها ألفاظ الحشر والحساب والصحف والميزان والصراط والنار والجنة التى نقلها لنا الوحي، وتبقى الحقائق الكاملة دون تصورنا؛ لأنها ترتبط بعالم غيبي لما نذهب إليه بعد لنتعرف على حقائقه، ولا تكتمل الحقائق إلا بتصور كلي، ولا يمكن لتكويننا الآني أن يصنع تصوّرا دقيقا كما يريد العقل الملحد حين يجادلنا دوما لنقدم له عالم الغيب في صورة العالم المشاهد؛ وهذا ما يأباه المنطق للطبيعة المتغايرة بينهما، لأننا لو أمكننا تصور المشهد كاملا لأصبح الغيب جزء من عالم الدنيا.
الحياة الأخروية التى تحدثت عنها الأديان تعيد للإنسان كرامته وقداسته التى يهدرها خطاب الإلحاد حين يرى الإنسان بعد موته جيفة تنتهى بالدود والتراب ويتلاشى معها كل الإنسان مثل أي شئ ضئيل يتلاشى من الدنيا بلا قيمة وبلا قدسية، الأديان رفعت من قدر الإنسانية حين جعلت من حياته حقيقة مطلقة باقية.. حينما أعطته روحا تعلو على الموت وتتحدى الفناء وهي بهذا أعطته العزاء والأمل وجعلت من عذابه كفارة ومن آلامه فداء.
* أستاذ علوم اللغة العربية وآدابها المشارك بجامعة الأزهر