لم تكن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مساحات خاصة خافية عن الأعين.. فكل حياته بأدق تفاصيلها كانت معلنة وواضحة للناس بقصد وبرغبة حثيثة في تعليمهم وتوجيههم لكيفية التعامل مع كل منحى من مناحي الحياة.. فما كانت شريعة الإسلام خاصة بالقضايا الكبرى أو بالمقاصد العليا فقط.. بل هي شريعة متكاملة تهتم بكل تفصيلة من تفاصيل الحياة، وتعني بكل دقيق وعظيم فيها.. فهي نظام حياة شامل وكامل.. وما كان النبي الحامل لتلك الشريعة إلا مُبَينا وموضحا لها في صفاته وسلوكه وحياته كلها حتى مماته صلى الله عليه وسلم.. مساحة جديدة في حياة سيد الخلق نشير إليها في ذكرى مولد النبي الهادي.. إنها مساحة علاقته بأبنائه وأحفاده…
(مقتطف من المقال)
إعداد/ فريق التحرير
لا شك أن عاطفة الأبوة أمر فطري لدى الآباء نحو الأبناء، لكن بلوغ الكمال فيها لم يحققه إلا القليل، ونبينا المصطفى – صلى الله عليه وسلم – كان صاحب الكمال فيها كبقية صفاته، تلك الصفة التي من أبرز مظاهرها: الشفقة بالأطفال والرقـة لهم، فقد كان ذلك السمت واضحاً جلياً في حياته عليه الصلاة والسلام، ليس مع أبنائه وبناته الذين من صلبه، بل كان ذلك مع أبناء المسلمين عامة. وذلك يشهد بقوة الأبوة وأصالتها لديه – صلى الله عليه وسلم -، فقد يكون الإنسان أباً عطوفاً شفوقاً مع أبنائه خاصة، يستنفذون طاقة حنانه، وجهد شفقته، وآخر بره، فلا يبقى لغيرهم شيء.
أما نبي الرحمـة -صلى الله عليه وسلم- فقد كانت الأبوة فيه كاملةً شاملة فاض برّها وحنانها وشفقتها على أبنـاء المسلمين جميعـاً، وسعدوا بها، وتَفيّـؤوا ظلالها، لقد كانت أبوة سخية معطاءة، بارة حانية، تُعلِّم الآباء كيف يكون البر؟ وكيف تكون الرحمة؟ وكيف يكون الحنان؟ بل كيف تكون الأبوة، وستظل أخبار تلك الأبوة الكاملة الشاملة التي سجلتـها الأحاديث الصحيحة سطوراً من نور تهدي الإنسانية إلى سنّة خير البرية عليه الصلاة والسلام.
أبناء النبي صلى الله عليه وسلم
كان للنبي صلى الله عليه وسلم أولاد وبنات أولهم القاسم وبه كان يُكنى.. مات طفلاً وقيل عاش إلى أن ركب الدابة، ثم زينب وقيل هي أسن من القاسم، ثم رقية، وأم كلثوم، وفاطمة وقد قيل في كل واحدة منهن إنها أسن من أختيها وقد ذكر عن ابن عباس أن رقية أسن الثلاث وأم كلثوم أصغرهن، ثم ولد له عبد الله، وهل ولد بعد النبوة أو قبلها فيه اختلاف وصحح بعضهم أنه ولد بعد النبوة وهل هو الطيب والطاهر أو هما غيره على قولين، والصحيح أنهما لقبان له والله أعلم.. وهؤلاء كلهم من خديجة ولم يولد له من زوجة غيرها، ثم ولد له إبراهيم من سريته مارية القبطية سنة ثمان من الهجرة) زاد المعاد 1/103.
فأولاد النبي وبناته كلهم من زوجه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها إلا إبراهيم فهو من سرية النبي مارية رضي الله عنها والتي أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم المقوقس ملك الإسكندرية وعظيم القبط، وأولاده على الصحيح سبعة.. ثلاث ذكور وأربع إناث فالذكور: القاسم، عبد الله، إبراهيم.
والإناث :زينب، رقية، أم كلثوم، فاطمة.. وكل أولاده صلى الله عليه وسلم ماتوا في حياته إلا فاطمة فإنها قبضت بعده رضي الله عنها.
كانت أبوة النبي تحمل كل معاني الرحمة والعطف والحنان، والرعاية والحب.. تطل علينا من خلال واقع عملي، تعجز الكلمات عن احتواء معانيه، وبيان مراميه. فتظل رواية الوقائع هي المادة التي يستطيع الكاتب أن يضعها بين يدي القارئ، ويترك له حرية التحليق بفكره وعقله علَّه يدرك بعض ما تعنيه أو ترمي إليه.. ولعل أول مراحل التعبير عن سعادة الأب هي فرحه بقدوم مولوده، وإذا كانت العواطف ليس لها مقاييس حتى نحدد مقدار حرارتها، فإن بعض التصرفات المادية قد تكون مؤشرًا على درجة تلك العاطفة.
تعالوا معًا ننظر إلى خصوصيَّة العَلاقة الرائعة بين الأب وابنته في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ترويه عائشة -رضي الله عنها- قائلة: أقبلتْ فاطمة تمشي كأن مشيتها مَشْيُ النبي، فقال النبي: (مَرْحَبًا بِابْنَتِي). ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أسرَّ إليها حديثًا فبكت، فقلتُ لها: لِمَ تبكين؟ ثم أسرَّ إليها حديثًا فضحكت، فقلتُ: ما رأيت كاليوم فرحًا أقرب من حزن، فسألتها عمَّا قال.
فقالت: ما كنتُ لأفشي سرَّ رسول الله. حتى قُبِضَ النبي، فسألتها، فقالت: أسرَّ إليَّ: إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلا أُرَاهُ إِلاَّ حَضَرَ أَجَلِي، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقًا بِي. فبكيتُ، فقال: (أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ). فضحكتُ لذلك. هكذا كانت تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لابنته، تربية قائمة على الحبِّ والعطف والحنان.
أمَّا عند وفاة إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تجلَّت عظمته، وظهرت مشاعر الأب الجياشة تجاه ولده حين خاطبه قائلاً: (يَا إِبْرَاهِيمُ، لَوْلا أَنَّهُ أَمْرُ حَقٍّ، وَوَعْدُ صِدْقٍ، وَيَوْمٌ جَامِعٌ، لَوْلا أَنَّهُ أَجَلٌ مَحْدُودٌ، وَوَقْتٌ صَادِقٌ، لَحَزِنَّا عَلَيْكَ حُزْنًا أَشَدَّ مِنْ هَذَا، وَإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ، تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ). وحينما قُبض إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: (لا تُدْرِجُوهُ فِي أَكْفَانِهِ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ). فأتاه فانكبَّ عليه وبكى.
صور من علاقة النبي بأحفاده
اعتمد النبي صلى الله عليه وسلم منهج عدم التفرقة بين البنين والبنات، أو قل: إعطاء البنات من المحبة والتقدير حقهن كاملاً، لا تنقصهن أنوثتهن من ذلك شيئاً.
ولقد كانت البيـئة الجاهلية الجافية، في حاجة إلى من يلقنـها هذا الدرس عمليّاً وسلوكياً، قبل أن يلقنه لها نظريّاً. وتعاليم تلك البيـئة التي كان فيها من تتحجر عاطفته، ويجف نبع الحنان في قلبه، وتنتكس فطرته، وترتكس طبيعته، حتى يدفن ابنته حية في التراب. “وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ” (النحل: 58-59).
في هذه البيئة وجدنا محمداً – صلى الله عليه وسلم – يخرج للصلاة حاملاً أُمامة بنت أبي العاص، ويتقدم إلى الصلاة وهي على كتفه، فإذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها. ما أرحمه، وما أحلمه وما أعظمه، أمامة بنت زينب ابنته على كتفه وهو يؤم المسلمين في الصلاة؟ ماذا عليه لو تركها بحجرته؟ ماذا لو تركهـا مع من يرعاها ويهدهدها حتى ينتهي من صلاته؟!
أترى رسول الله تدفقت في قلبه ينابيع الحب والشفقة، فلم يقدر على أن يحرم نفسه من ريح أمامة؟! أم تراه خاف عليها أن تتألم أو تبكي لفراق جدها؟! أم الأمر غير هذا وذاك؟ نعم. أراه – صلى الله عليه وسلم – أراد أن يعلم المسلمين درساً في الأبوة، أو درساً في الصلاة أو هما معاً.
فكأننا به – صلى الله عليه وسلم – أراد أن يقول لأمته إن الصلاة التي هي مناجـاة من العبد لربه، الصلاة التي جعلت فيها قرة عينه – صلى الله عليه وسلم – هذه الصلاة لا يبطلها، ولا يمنع منها أن تكون ابنتك على كتفك، بل لعله أراد أن يقول لأمته إن هذه الطفلة والرقة لها، والشفقة عليها، من مطهرات القلوب ومن أسباب تخليصها لله، فهي من المعينات على إحسان الصلاة.
أم الأمر أكبر من كل ذلك، وأنه أراد أن يقول إن هؤلاء البنات اللاتي كُنّ تسودّ منهّن الوجوه، أولى بالرعاية والإكرام والشفقة والرحمة؟
نعم هذا ما أردت أن تقوله يا رسول الله فها أنت قد قلته عملياً، ثم أكدته قولاً: (من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن، كنَّ له حجاباً من النار يوم القيامة) (ابن ماجه واحمد).
وقال – صلى الله عليه وسلم -: (من بُلي من هذه البنات شيئاً، فأحسن إليهن، كُنّ له ستراً من النار يوم القيامة) أخرجه البخاري.
كما اهتمَّ رسول الله بأحفاده، وعنى باختيار أجمل الأسماء لهم، فعن عليٍّ قال: لمَّا وُلِدَ الحسن سمَّيته حربًا، فجاء رسول الله فقال: (أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟) قال: قلتُ: حربًا. قال: (بَلْ هُوَ حَسَنٌ). فلمَّا وُلِدَ الحسين سمَّيته حربًا، فجاء رسول الله فقال: أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟ قال: قلتُ: حربًا. قال: (بَلْ هُوَ حُسَيْنٌ).
ومن شدة محبته لأسباطه ربما قطع الأمر المهم لأجلهم؛ فعن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: (صدق الله: “إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ” (التغابن:15) فنظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما) (رواه الترمذي: 3774).
ولم تكن هذه المواقف مواقف عابرة في حياته صلى الله عليه وسلم، ولكنها كانت صفة أصيلة من صفاته صلى الله عليه وسلم؛ لذلك يُرْوَى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبَّل الحسن بن علي، والأقرعُ بن حابس التميمي جالس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قَبَّلْتُ منهم أحدًا قطُّ. فقال رسول الله: (مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ).
لم يقف برٌّه صلى الله عليه وسلم عند حد تحنيـكه أطفال المسلمين، وتبريكهم، وتسميتهم، بل كان يداعبهم، ويلاطفهم، ويدخل السرور عليهم.
ثم لا بد أن نقف هنا أمام أروع صور البر الأبوي، فمحمد – عليه الصلاة والسلام – الذي ترققه الأبوة، ويلينه الرفق والبر، حتى تُقبل الصبية عليه تتواثب على حِجره وكتفيه – صلى الله عليه وسلم -، وتلعب بخاتم النبوة بين كتفيه، وتجيل أناملها تتحسس وتداعب وجهه الكريم، وجسده الشريف، محمد الذي تبلغ به الرقة هذا المبلغ هو محمد الذي كان يقف أمامه الأعرابي الفظ الجافي فتأخذه الروعة والهيبة فيرتجف، ويضطر – صلى الله عليه وسلم – أن يطمئن الرجل ويذهب روعه، فيقول له: (هون عليك إنما أنا لست بمَلِك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد).
ورغم كل هذا الحب كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلم أولاده وأحفاده، أنه لن يحابيهم -رغم محبته الشديدة لهم- على حساب المسلمين؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كِخْ كِخْ، ليطرحها، ثم قال: أما شعرت أنَّا لا نأكل الصدقة) رواه البخاري.
هكذا كانت عَلاقة الأب بأبنائه وأحفاده.. عَلاقة قائمة على المحبَّة والحنان تَشعر الأسرةُ في ظلِّها بالأُلْفة، فما أعظمك يا رسول الله مِنْ أبٍ وَجَدٍّ!
المراجع:
*موقع الإسلام سؤال وجواب
https://bit.ly/36RM82o
*موقع قصة الإسلام
*موقع طريق الإسلام
*موقع مداد
*شبكة الألوكة الشرعية
*أرشيف موقع إسلام أون لاين