يحفل الحج بمعان سامية وأسرار عجيبة؛ تفتح سيلا من الأسئلة، من قبيل: تُرى لماذا كل هذا الشوق للحج؟ وإذا كان شغف الطائع مفهوما، فما سر شغف المذنب؟ وكيف تذوب النفوس في تلك الرحلة المباركة؟.. مشاعر متنوعة لحجيج عائدين من تلك الشعيرة المباركة، وآراء متعددة تحلل تلك المشاعرفي محاولة لمنطقتها وتقريب مدلولاتها للعقل نستعرضها في سياق التحقيق التالي…
نهال محمود مهدي*
عاد الحجيج من رحاب مكة والمدينة، وما زالت قلوبهم تتسارع دقاتها كلما جالت بخواطرهم ذكريات الرحلة العطرة. وتذرف عيونهم بالدموع لفراق بكة؛ إذ يستعيدون -مع سماع كل أذان- لحظة أن ارتجفت أفئدتهم، فرحة بزيارة بيت الله الحرام، حيث موعدهم مع المغفرة.
وعن هذه المشاعر؛ يقول رجب السيد -صحفي: “هي رحلة إيمانية بكل المقاييس، كثيرون يعدون أدعية ولكن لحظة وقوع العين على الكعبة ينسى المرء كل الأدعية، بل وينسى كل شيء؛ فوصف المشاعر صعب، فعند رؤية الكعبة يخالجك شعور بعظمة وجلال المكان وهيبته، وليست الكعبة فحسب؛ فكل مكان في هذه البقعة المباركة له إحساسه الخاص والمختلف؛ ففي المدينة المنورة تشعر بقمة السكينة والاطمئنان والسعادة لمجاورة النبي صلى الله عليه وسلم، والتواجد في الروضة الشريفة، والصلاة بداخلها، والسلام على ساكنها عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم”.
ويكمل رجب -وفي عينيه لمعة النشوة: إن لحظات الوداع والفراق هي أصعب اللحظات على الإطلاق؛ فمع بكاء الكثيرين لحظة طواف الوداع كنت حريصا على عدم النظر إلى البيت الحرام عند مغادرتي لئلا تغرقني مشاعر الحزن والأسى على فراقه، لكن… عندما خرجت التفت رغما عني وألقيت نظرة أخيرة شعرت معها بفراق أكثر الأماكن طهارة على وجه الأرض”.
الكعبة.. ذروة الجمال و المشاعر
وتتفق سارة سامي -خريجة كلية الإعلام- مع رجب فيما رصده من مشاعر وتضيف: “زرت الكعبة أكثر من عشرين مرة، وفي كل مرة أحظى بإحساس جديد ومختلف. وفي الرحلة الأخيرة كنت خجلة من الله لكثرة ذنوبي وتقصيري في جنبه، لكنه سبحانه أحاطني بكرمه وغسلني من ذنوبي، فعدت -ولله الحمد- يتملكني شعور بالزهد في الدنيا”.
وتضيف سارة: أحسست بحق وكأنني ولدت من جديد، وظللت أحمل في ذاكرتي مكة؛ أجمل بقاع الدنيا؛ وينبغي على كل من يعاني من أي مشكلات حياتية أو نفسية؛ أن يزورها ويستمتع بحلاوة الرحلة ويعيش في هذا الجو الإيماني حتى يبرأ مما فيه ببركة هذا المكان الطاهر”.
وينقلنا عبد الهادي أبو طالب -صحفي ومترجم- درجة أخرى، فيقول: “جسدت عندي الكعبة ذروة الجمال والمشاعر؛ فهي رمز التوحيد الخالص، فقد وجدت نفسي في مشهد تجمّع فيه مزيج عجيب من كل ألوان البشر وأشكالهم، الجميع يطوف ويلبي، فاستشعرت بذلك عظمة الخالق عز وجل الذي أذن لكل هذا الجمع من البشر بعد أكثر من 1400 عام من بعثة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم”.
ويستطرد أبو طالب: ذروة مشاعري كانت في عرفات الذي يمثل وقفته منتهى التجرد لله عز وجل من كل شيء، فتشعر أنه أفضل يوم في الدهر، ومَنْ خسره فقد خسر كل شيء. فالحاج يخشى أن تغيب شمس هذا اليوم دون أن يغفر له، فيتضرع إلى الله بالدعاء طمعا أن يشمله عفو الكريم سبحانه وتعالى”.
رحلة الحج.. تغيير مسار!
ويؤثر الفيض الإيماني لرحلة الحج على سلوكيات المسلم؛ فيصبح أكثر انضباطا والتزاما، وهناك نماذج لكثير من الناس غيرت رحلة الحج من مسار حياتهم، وصنعت منهم أناسا جددا. ويتضح هذا جليا فيما حكته الفنانة المعتزلة شمس البارودي في حوار أورده الكاتب محمد بن عبد العزيز المسند في كتابه “العائدون إلى الله” (القاهرة: مكتبة السنة، 1994).
حكت فيه شمس عن تأثير زيارة بيت الله الحرام عليها فقالت: “ذهبت لأداء العمرة عن أخت لي. وبعد أدائها لم أنم تلك الليلة، واستشعرت بضيق رهيب في صدري، وكأن جبال الدنيا تجثم فوق أنفاسي، وخطايا البشر كلها تخنقني، وتجسدت مباهج الدنيا التي كانت تسعدني كأنها أوزار تكبلني”.
وتستطرد شمس: “سألني والدي عن سبب أرقي؛ فقلت له أريد الذهاب إلى الحرم. وعندما وصلت أخذت أدعو بقوة الإيمان، ودموعي تنهمر في صمت دون انقطاع، وعند مقام إبراهيم عليه السلام وقفت أصلي ركعتين بعد الطواف، وقرأت الفاتحة كأني لم أقرأها طوال حياتي، فتذوقت عظمتها، بكيت وكياني يتزلزل، وأحسست بوجود ملائكة كثيرة تحفنا في الطواف، واستشعرت عظمة الله كما لم أستشعرها طوال حياتي”.
آيات الله تتجلى
ومن جهته، يقول الداعية الإسلامي الشيخ وجدي غنيم: يدعم الحج المسلم بمشاعر إيمانية قوية، ليس هذا فحسب بل يقويها أيضا، فعندما يرى الإنسان بناء إبراهيم عليه السلام المتمثل في الكعبة يتعمق عنده الإحساس بالانتماء إلى جده الأكبر إبراهيم عليه السلام الذي يعكس بدوره انتماءنا للإسلام على أساس اعتبار الكعبة رمزا له.
ويضيف الشيخ غنيم: من أهم أسباب شعور المسلم بتلك المشاعر الإيمانية أيضا، رؤيته لآيات الله عز وجل في الحج والتي عبّر عنها في كتابه الكريم في سورة آل عمران: “إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً” (آل عمران:96).
فمن آيات الله التي يراها المسلم عند حجه “مقام إبراهيم” وكيف تجلت قدرة الله عز وجل في إلانته للحجر لتنطبع عليه آثار أقدام أبينا إبراهيم وتكون أثرا وشاهدا إلى يوم القيامة. أيضا “ماء زمزم” المتدفقة دائما والتي لا تنضب أبدا ولا تنتهي رغم شرب الملايين منها كل عام.
ويستطرد غنيم: هناك أيضا “منى” تلك البقعة الضيقة التي تتسع كل عام لملايين الحجيج؛ حتى إن المرء لو رآها في غير زمن الحج لتعجب، ولما تخيل استيعابها لكل هذا الكم من أفواج الحجيج، حتى قال فيها العلماء “تتسع منى للحجيج كما يتسع رحم المرأة للجنين“، وهناك غير تلك الآيات الكثير والكثير الذي يجعل المسلم -رغما عنه- أسيرا لتلك المشاعر الرائعة.
ويلتقط أطراف الحديث، فضيلة الشيخ محمد الراوي -عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف– الذي عبّر عن رأيه قائلا: تهفو إلى الحج قلوب الناس على اختلاف ألوانهم وأجناسهم؛ استجابة من الله عز وجل لدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام: “رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ” (إبراهيم:37). فبرغم كون مكة منطقة وعرة تحيطها الجبال من كل مكان؛ تشتاق لها الأرواح والأبدان، أكثر مما تهفو إلى زيارة أي منتجع سياحي جذاب.
عن طيب نفس
ويتفق الدكتور عبد الله بركات- عميد كلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة السابق مع ما قاله الراوي؛ ويضيف: “حينما يرى المسلم الكعبة لأول مرة؛ يدرك عِظَمَ نعمة الله عليه؛ لأنه أتى به من فج عميق، من غير حول منه ولا قوة، ليرى بأم عينيه ما كان يتوجه إليه في صلاته طيلة حياته، دون أن يره، وهو أول بيت وضع للناس.
كما أن من نعم الله على المسلم أن يسر له نفقات حجه. فعلى الرغم من حب الإنسان لجمع المال وكنزه؛ يضحي به الحاج عن طيب نفس ليشتري ما هو أغلى من عطايا الدنيا؛ يدفع القليل -مالا وجهدا- مقابل وعد من الخالق بتخليصه من ذنوبه وخطاياه؛ متطلعا لحديث الصادق صلى الله عليه وسلم: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) متفق عليه.
ويقول بركات: يدرك المسلم عظمة هذا الدين عند الطواف حول الكعبة؛ متمثلة في مشهد أمة واحدة تتكامل وتتكاتف. فينظر الناس من كل أنحاء الحرم إلى الكعبة، ويطوفون في حركة دائرية تنسجم مع حركة الأفلاك، يسبحون الله ليل نهار لا يفترون، خلعوا كل مظاهر الحياة، وتجردوا لله الواحد القهار.
وعندما يرى هذا البناء العظيم، يتذكر يوم أن ترك إبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل وزوجه هاجر، دون أنيس أو جليس بواد غير ذي زرع، ويوم أن وضعا قواعد البيت، وقد حكى القرآن ذلك فقال: “وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” (البقرة:127).
ويتذكر يوم أن كانت الأصنام حول الكعبة وفي جوفها، فإذا بالبيت قد تلاشت من حوله أمارات الأوثان والأصنام، وصدحت أرجاء مكة كلها بالأذان، وباتت تردد الثناء على خالقها وتسبح بحمده، فلا ترى بها إلا راكعا أو ساجدا أو باكيا أو مستغفرا أو متأملا.
ومن عجائب الأمور أنك ترى في مكة كل ألوان الطعام والفاكهة. فترى فاكهة الصيف شتاء وفاكهة الشتاء صيفا؛ بعد أن كانت المنطقة صحراء جرداء. فتتفاعل خلجات نفس المسلم عندما يتفكر في هذه المظاهر، ويشعر بروحه هائمة.
مؤتمر عالمي
واختتم الدكتور بركات حديثه ؛ مؤكدا أن الحج مؤتمر كبير، ويجب على الحكام وأولي الأمر فهم علة جمع الناس كالبنيان المرصوص؛ وقد زالت بينهم الفوارق وذابت أهدافهم في هدف واحد. فلو أدركوا ذلك؛ لما تنازعوا، وتداعت علينا الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها؛ لا من قلة ولكن من فرقة.
فندائي إلى من استطاع إلى الحج سبيلا أن يذهب إلى مكة في العام القادم؛ ليتكامل مع إخوانه، ويبرم معهم ميثاق شرف غليظا، يعملون به طوال العام، ويعودون في العام الذي يليه ليجددوه مرة أخرى. فيظل العطاء ممدودا؛ وعطاء الله بلا حدود.
ويقسم الدكتور محمد هاشم بحري- أستاذ علم النفس الحجاج إلى صنفين: إما متدينون أصلا؛ يكملون بالحج فرائض الإسلام الواجبة عليهم. وإما غير متدينين، وهم النوع الثاني المتحمس لإعادة بناء علاقته مع الله.
ويضيف هاشم: والتحليل النفسي لبعض أفراد النوع الثاني؛ يؤكد أن لهم مشاكل مع “السلطة”. والسلطة هنا قد تتمثل في أسرة تضم أبا أو أما. وقد ينتج عن عدم التوافق مع السلطة المباشرة (الأسرة) عدم استقرار في التواصل مع السلطة الأعلى “الإله”. وتكون توبة أصحاب المشاكل الاجتماعية أكثر صدقا. ورغم ذلك؛ يأتي خطر الانتكاسة إن لم تنصلح أحوالهم الاجتماعية؛ إذ قد يعودون إلى ما كانوا عليه قبل الحج.
ويرجع هاشم سر الأحاسيس الجياشة التي يشعر بها الحاج إلى رمزية الكعبة في العقلية المسلمة؛ فهي ترمز إلى الإسلام. ويوضح أن “الإنسان الذي يعيش في بلاد الإسلام يتعرض منذ ولادته لكم ضخم من الحشد الروحي والمعنوي وإثارة في المشاعر، يثير الوله والحب والشوق تجاه تلك البقعة المباركة”.
ورغم كل التفسيرات التي يطرحها العلماء عن “الشوق” للحج فستظل هناك معان وأسرار غامضة، يستشعرها المسلم بقلبه، ولا يستطيع أن يعبرعنها بلسانه أو يحللها نيابة عنه أهل العلم؛ فهي كالألغاز جعلها الله سرا في النفوس، معان وحدها هي القادرة على تطهير القلوب من جبال الذنوب، وإشعال شموع الطاعة فيها.
____________________________________
المصدر: سبق وأن نشر التحقيق في عام 2005 عبر شاشة موقع إسلام أون لاين، ويعيد موقع الباحث عن الحقيقة نشره مع بعض التصرف في المحتوى
- محررة موقع الباحث عن الحقيقة