تزلزلت عقيدتي، وشرع الشك يتسرب إلى نفسي، حتى صرتُ لا أرتاحُ إلى رأيٍ واحدٍ يتضمنه كتابٌ، ولا أقتصرُ على فكرة معينة يجتهد بعض العلماء في إثباتها بما عُرف من قوة الحجة وساطع البرهان…
إعداد/ فريق التحرير
يصنف المفكر محمد فريد وجدي ككاتب موسوعي وباحث فلسفي متجرد عاش لفكرته حياته كلها بعيدا عن الأضواء، وقام وحده بإنجاز دائرة معارف القرن العشرين وهي تعد أضخم وأول دائرة معارف عربية شاملة. عرف بغيرته على الإسلام فنذر نفسه للدفاع عنه بكل ما أوتي من علم ومال، وأثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفات لا تزال منهلا للكتاب والباحثين على مر الأعوام.
ولد محمد فريد وجدي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر على اختلاف في تعيين سنة مولده ما بين 1292هـ أو 1295هـ/ 1875م أو 1878م، وإلى التاريخ الأول ذهب الزركلي في كتابه “الأعلام” بينما يرجح الدكتور طه الحاجري التاريخ الآخر.
وكان مولده بالإسكندرية لأسرة من أصل تركي اتسمت بالمحافظة، وكان والده مهتما بالعلم ولديه مكتبة ضخمة في داره تضم العديد من الكتب في سائر مجالات المعرفة.
تلقى وجدي تعليمه بالمرحلة الابتدائية بالإسكندرية حيث تنقل بين ثلاث مدارس خاصة هي “مدرسة إسماعيل حقي” و”مدرسة حمزة قبطان” و”مدرسة مسيو فاليو”، وحينما انتقل والده للعمل بالقاهرة عام 1309هـ/ 1892م، تابع وجدي دراسته بالمدرسة التوفيقية بالقاهرة لكنه – لاختلاف طبيعة الدراسة فيها عما درسه بالإسكندرية – طلب من والده أن يترك المدرسة وأن ينصرف لتحصيل الدراسة بنفسه فوافق والده خاصة بعد أن انتقل لدمياط للعمل كوكيل للمحافظة بها، وهنا انقطعت صلة وجدي بالدراسة النظامية مفضلا القراءة والاطلاع بعد أن قطع شوطا لا بأس به في دراسة اللغة الفرنسية.
وفي دمياط (محافظة مصرية من محافظات الدلتا) تعرض وجدي لحادث غير مسار حياته؛ وهو حادث الشك في العقيدة والذي خرج منه بسلام زاده وثوقا في العقيدة بعد البحث والاطلاع، وتعلم منه دقة البحث والاستقلال في الفكر. وكان لهذا الحادث أكبر الأثر في فكره حيث بدأ بعده في إصدار المؤلف تلو الآخر مبتدئا بكتاب ألفه وهو لم يتعد السادسة عشرة وأسماه “الفلسفة الحقة في بدائع الأكوان” قدمه لكل من يمر بمثل تجربته التي تعرض لها مستدلا من القرآن والسنة وبأقوال علماء الطبيعة والكيمياء على وجود الله وعجائب صنعه. وقد راج الكتاب ونفدت نسخه في وقت قريب.
وعن تلك الحادثة المصيرية في حياة/ محمد وجدي يتحدث بنفسه قائلا: (كان أهم ما وجهني إلى البحث في العلوم الدينية: حادث الشك في العقيدة الذي أدى بي إلى الشك في كل شيء، حتى الدين وعلومه؛ فقد كنتُ في سن السادسة عشرة، طالباً في المدرسة التحضيرية والثانوية التي حصلتُ منها على شهادة الدراسة الثانوية باللغة الفرنسية.
كان أبي – فريد وجدي- موظفاً بالحكومة المصرية، وحدث وقتئذ أن اختير وكيلاً لمحافظة دمياط، فكان لابد من انتقالي مع عائلتي إلى هذه المدينة التي اشتهر أهلُها بالتفقه في الدين وميلهم إلى العلوم الدينية والآداب.
ولَمَّا نزلنا هذه المدينة مع أبي: أقبل علماؤها يرحبون به، فكان يجتمع في دارنا عددٌ كبيرٌ منهم، وكانت تدور أثناء المجلس عدة نقاشات دينية: وجدتُّ فيها مجالاً للبحث والتفكير، غير أنني كلما كنت أناقش أحد العلماء في مسألة تتعلق بالخلق والكون: أسرع “أبي” إلى قفل باب المناقشة، وأمرني بألا أخوضَ في المسائل الدينية أو أن أبدي رأياً فيها!
فكنتُ أَمْتَعِضُ وأَغضب، وأرى ذلك حجراً على العقل بلا مُسَوِّغٍ، وأخذتُ أبحثُ عن السبب الذي أدى بهؤلاء العلماء إلى الجمود، وقلتُ في نفسي: إنه لابد أن يكون ما يدرسونه من الكتب عقيماً.
ومن هنا، تزلزلت عقيدتي، وشرع الشك يتسرب إلى نفسي، حتى صرتُ لا أرتاحُ إلى رأيٍ واحدٍ يتضمنه كتابٌ، ولا أقتصرُ على فكرة معينة يجتهد بعض العلماء في إثباتها بما عُرف من قوة الحجة وساطع البرهان.
وجعلتُ أتناول بالقراءة والدرس جميعَ ما أحصل عليه من الكتب الدينية والكونية والفلسفية والاجتماعية، وسائر كتب علم النفس، وعكفتُ على دراستها عدة سنواتٍ، فاكتسبتُ علماً غزيراً، واتسع أمامي أفق التفكير، وجالَ فكري جولاتٍ في الكائنات أفادتني فيما أتناوله بالدرس والبحث، حتى صرتُ لا أقتنعُ بفكرةٍ دون أن أُعْنَى بدرسها وتمحيصها، معتمداً في ذلك على تجاربي الكثيرة، وبحوثي المتنوعة، وتفكيري الذاتي.
ولقد أفادني ذلك استقلالاً في الفكر، واعتماداً على النفس، ورغبةً قويةً في استيعاب كل ما يقع بيدي من الكتب – على أنواعها- بصبرٍ وجَلَدٍ، كما استفدتُّ صحةَ البحثِ، حتى زال الشك عني وارتاحت نفسي إلى إيمان ديني ثابت).
بعد تلك المرحلة واصل وجدي ثورته الفكرية مرتئيا أن الغرب يروج لحملات الهجوم على الإسلام فحاول مخاطبة الغرب وتوضيح ما وقعوا فيه من أخطاء خاصة بحقيقة الإسلام فكتب بالفرنسية كتاب “الإسلام والمدنية” (ألفه وهو ابن عشرين عاما وقد ألف بالفرنسية ثم ترجم للعربية وغيرها.
ثورة ضد الإلحاد
كان يرى أن عليه أن يسعى لإثبات أن الإسلام صالح لقيادة الإنسانية؛ لذا فقد اتجه للصحافة، وكانت جرائد اللواء والأهرام والمؤيد ترحب بمقالاته الأدبية وبحوثه العلمية، إلا أنه بعد فترة رأى أن هذه الجرائد أحيانا ما ترفض نشر هذه الدراسات العلمية المتخصصة، فاتجه فكره لإصدار مجلة علمية أسماها “الحياة” وصدر أول عدد منها غرة صفر 1317ه / 9 من يونيو 1899م وعمره 22 عاما وكان غرضه من إصدارها تثبيت أصول الدين في عقول أبنائه بنتائج العلم العصري وإقامة الأدلة العمرانية والفلسفية على أن هذا الدين هو منتهى ما يصل إليه الإنسان من حقيقة الدين وما تدفعه إليه الفطرة.
قضى وجدي قرابة نصف عمره منافحا للمادية والماديين فكان يسارع بشراء ما يصدر باللغة الفرنسية من الكتب التي تروج للنظرية الداروينية ليقوم بتفنيدها والرد عليها، فكتب “على أطلال المذهب المادي” في أربعة أجزاء لهدم كل ما قاله “المطورون” كاشفا حقيقة الصلة بين العلم والدين.
المصادر:
*موقع جود ريدز
*موقع قصة الإسلام