د/ زغلول النجار
يقول الله تعالى في كتابه: “إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ” (آل عمران:96)، في الآية الكريمة معجزات ودلالات شتى أثبتها العلم الحديث، وقدم عليها الأدلة والبراهين، وسأقدم مجموعة من تلك الاكتشافات التي أقرها القرآن وأشارت لها السنة من مئات السنين…
أولا: مكة المكرمة تمثل وسط اليابسة
في دراسة لتحديد اتجاهات القبلة من المدن الرئيسية في العالم لاحظ الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين[i] ــ رحمه الله ــ تمركز مكة المكرمة في قلب دائرة تمر بأطراف القارات السبع الحالية, واستنتج من ذلك أن اليابسة موزعة حول مكة المكرمة توزيعا منتظما علي سطح الكرة الأرضية, بمعني أن هذه المدينة المباركة تعتبر مركزا لليابسة, وبمتابعة هذه النتيجة المبهرة, وجد أنه في كل حالات اليابسة – وهي كتلة واحدة, وعندما تم تفتيتها إلي القارات السبع, وعندما كانت القارات أكثر قربا من بعضها البعض, وفي مراحل زحفها المتتالية حتي وصلت إلي أوضاعها الحالية- كانت مكة المكرمة دائما في وسطها, مما يؤكد أن اليابسة قد دحيت من تحتها كما ذكر رسول الله ــ صلي الله عليه وسلم ــ في أحاديثه, وكما أشار ربنا في محكم كتابه, مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله ــ صلي الله عليه وسلم ــ فيقول له: “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا” (الشورى:7)، وقوله تعالى: “وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا.. الآية” (الأنعام:92).
وقد حاول عدد من المستشرقين اقتطاع هذين النصين الكريمين من مضمونهما وقصر تعبير( أم القري ومن حولها) علي أهل مكة وبعض قري جنوب الحجاز من حولها, واعتباره معارضا للعديد من النصوص القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تؤكد عالمية الرسالة المحمدية الخاتمة, وذلك من مثل قول ربنا ــ تبارك وتعالي ــ مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله ــ صلي الله عليه وسلم:” قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا” (الأعراف:158)، وقوله تعالى: “تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا” (الفرقان:1).
ومن مثل قول المصطفي ــ صلي الله عليه وسلم ــ (أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ : نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَجُعِلَ لِيَ الأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلَّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً ، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً) ( البخاري والنسائي).
وكما أن هناك من النصوص الشرعية ما يؤكد كرامة الحرم المكي وشرفه، هناك أيضا من الشواهد الحسية العديدة ما يدعم ذلك ويبرهن عليه ويمكن إيجازها في النقاط التالية:
(1) توسط الحرم المكي الشريف من اليابسة التي تتوزع حول هذا الحرم توزعا منتظما كما أثبت ذلك الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين ــ رحمه الله ــ في دراسته العلمية الجادة لتحديد اتجاهات القبلة من المدن الرئيسية في العالم, والتي نشرت في العدد الثاني من المجلد الأول لمجلة البحوث الإسلامية الصادرة بمدينة الرياض سنة1395 هــ/1975 م, كما أثبت أن الحرم المكي هو المكان الوحيد من اليابسة الذي يتحقق له هذا التوسط.
(2) انعدام الانحراف المغناطيسي عند خط طول مكة المكرمة (39.817 شرقا) كما ثبت في البحث المشار إليه آنفا.
(3) وجود أركان الكعبة المشرفة الأصلية في الاتجاهات الأربعة الأصلية تماما.
(4) تفجر عين زمزم وسط صخور نارية ومتحولة وفيضانها لنحو أربعة آلاف سنة ( منذ سنة 1823 ق.م).
(5) ثبوت الطبيعة النيزكية لكل من الحجر الأسود ومقام إبراهيم مما يثبت أنهما من أحجار السماء, كما قرر ذلك رسول الله ــ صلي الله عليه وسلم ــ من قبل ألف وأربعمائة سنة.
ثانيا: اليابسة كلها نمت من تحت الكعبة المشرفة:
تفيد أحدث النتائج في دراسات علوم الأرض أن كوكبنا قد مر بمرحلة من تاريخه القديم غُمر فيها بالماء غمرا كاملا, فاختفت اليابسة تماما ثم فجر الله ــ تعالي ــ قاع هذا المحيط الغامر بثورة بركانية ظلت تلقي بحممها فوق قاعه حتي تكونت سلسلة جبلية في وسطه تشبه ما يعرف اليوم باسم حيود أواسط المحيطات وهي: سلاسل من الصخور البركانية والرسوبية المختلطة, تجري بطول أواسط كل المحيطات الحالية, وتغذيها الأنشطة البركانية فوق قيعان المحيطات باستمرار, علي فترات من النشاط والخمود حتي تظهر بعض قممها فوق مستوي سطح الماء في المحيط لتكون عددا من الجزر البركانية مثل جزر هاواي, واليابان, والفلبين, وإندونيسيا وغيرها.
والسلسلة الجبلية التي تكونت فوق قاع المحيط الأول الغامر للأرض ظلت تنمو بتواصل نشاطها البركاني حتي برزت أول قمة منها فوق مستوي سطح الماء فكانت أرض مكة المكرمة, فأمر الله ــ تعالي ــ ملائكته ببناء الكعبة المشرفة علي هذه القطعة الأولي من اليابسة, ولذلك قال رسول الله ــ صلي الله عليه وسلم ــ: (كانت الكعبة خشعة[ii] علي الماء فدحيت منها الأرض.) ( صححه الزمخشري)، وقال أيضا: (دحيت الأرض من مكة فمدها الله تعالي من تحتها فسميت أم القري.) (مسند الإمام أحمد)
وفي شرح هذين الحديثين الشريفين ذكر كل من ابن عباس رضي الله عنهما وابن قتيبة -أرضاه الله- أن مكة المكرمة سميت باسم أم القري لأن الأرض دحيت من تحتها لكونها أقدم الأرض والدحو في اللغة هو المد والبسط والإلقاء, وهي كلمة جامعة للتعبير عن ما توصل إليه العلم من حدوث ثورة البركان الذي يوسع من امتداد طفوحه البركانية كلما تجدد نشاطه وذلك بإلقاء مزيد من تلك الطفوح.
وقد ظلت الثورات البركانية فوق قاع المحيط الأول تلقي بحممها حتي تعددت الجزر البركانية فيه وبدأت تتلاحم مكونة كتلة أرضية واحدة تعرف باسم القارة الأم أو أم القارات (PANGAEA) ثم شاءت إرادة الله ــ سبحانه وتعالي ــ أن يفتت تلك القارة الأم بشبكة من الصدوع إلي القارات السبع التي نعرفها اليوم, وكانت هذه القارات أشد قربا إلي بعضها البعض من أوضاعها الحالية ثم أخذت في الانزياح متباعدة عن بعضها البعض حتي وصلت إلي أوضاعها الحالية, ولاتزال قارات الأرض السبع في حركة مستمرة, ولكنها حركة بطيئة لا يشعر بها الإنسان وإن أمكنه قياسها بأجهزته المتطورة.
هذه الحقائق لم تتوصل العلوم المكتسبة إلي شيء منها إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين, وورودها في كتاب الله, وفي أقوال رسول الله ــ صلي الله عليه وسلم ـ من قبل ألف وأربعمائة سنة يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق, ويشهد للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة, فصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[i] – عالم فلكي مصري (1987-1913) حصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1978، وضع الخطوط الأساسية لإنشاء أطلس جديد يسمى الأطلس المكي، ويمتاز بإظهار موقع مكة المكرمة بالنسبة إلى القارات الأرضية، واستعمال الإسقاط المكي للعالم في إنشاء خرائط هذا الأطلس وبيان خطوط اتجاهات الصلاة على هذه الخرائط.
[ii] – الخُشعة والجمع خُشع هي الكتلة من الأرض المائلة إلى السهولة أي ليست بالحجر ولا بالطين.
_____________________
المصدر: جريدة الأهرام المصرية، بتاريخ 26/ 12/ 2005، العدد 43484