عرض وترجمة/ محمد عبدالله العليان
إن نظرية الارتقاء الدارويني هي النظرية المهيمنة حاليا في علم الأحياء في الغرب. وليس بمسموح حتى الآن بتوجيه النقد لها في المناهج الدراسية على مستوى الثانوية أو الجامعة. وتسمى نظرية الارتقاء الجديدة NDT وذلك بعد التعديلات التي أجراها عدد من العلماء عام 1941 على بعض فرضيات داروين عندما أصبح من المتعذر الدفاع عن هذه الفرضيات. إنه لا مناص من عرض مثل هذه التقريضات لأن الماديين في عالمنا العربي يستخدمون فرضيات الارتقاء الدارويني للتشكيك في الله والرسالة على أساس أنها، أي هذه الفرضيات، أمور ناجزة علميا وهو قول أبعد ما يكون عن الحقيقة.
ففي كتابه الأخير Uncommon Dissent (شقاق غير مألوف)، يورد الفيلسوف وعالم الرياضيات الأمريكي William A. Dembski، وليم دمبسكي، مقالات لفلاسفة معاصرين ولرواد في علم الأحياء والرياضيات والفيزياء يحاجون برجحان الأدلة ضد الداروينية واعتمادها على المصادفة أي “الطفرات العشوائية”. وحسب ما يقول دمبسكي: “جمعت الداروينية حول نفسها هالة كؤود.. أقل ما يقال عنها أنها لا ترحب بالنقاش العقلاني حيث يؤكد علينا مؤيدو الداروينية بأنها قد أُثبتت إثباتا ساحقا وأن مقاومتها غير مجدية وتكشف عن سوء نية أو ما هو أسوأ”. حسب كلام الناشر
“فإن الذين يشكون في الطباق الدارويني يُظن بأنهم-حسب تعبير ريتشارد داوكنز الذائع الصيت- إما جهالا أو أغبياء أو مجانين أو أشرارا”! ويمضي التقريض قائلا: “إن عداء الداروينيين الدوغماتيين[i] مثل دوكنز لم يمنع ظهور عدد متزايد من النقاد المثقفين الذين ينقدون مقالات الداروينية الميتافيزيقية” (أي ما فوق الطبيعية).
إن المقالات الموزونة والتي تحرك الفكر التي يضمها كتاب (شقاق غير مألوف) تظهر بجلاء واضح أن هؤلاء النقاد ليسوا أصوليين مضحكين قد غُسلت أدمغتهم كما يدعي المدافعون عن الداروينية ولكنهم نقاد جديون ذوو عقول منفتحة، تشكل حججهم تحديا جديا لقابلية العقيدة الداروينية[ii] للحياة”.
ولمن لا يعرف فنظرية “الارتقاء الدارويني” في جمل بسيطة هي: الادعاء بأن تنوع الكائنات الحية الذي نراه من حولنا إنما حصل بآلية الانتخاب الطبيعي عبر ملايين السنين التي انتخبت طفرات جينية توفر للكائن قدرة أفضل على البقاء وبالتالي التناسل وإنتاج ذرية تخضع لمبدأ “البقاء للأصلح”، وعبر سلسلة من هذه التعديلات (تعديل صغير يعقبه تعديل صغير) ارتقت الأشكال البسيطة إلى أشكال أعقد وهكذا بدون قصد أو تدخل خالق، مع التأكيد على ان الطفرات الجينية يجب أن تكون عشوائية ليس سببها البيئة المحيطة أو حاجة الكائن الحي (هذه فرضية جوهرية في نظرية الارتقاء)[iii].
والحق أن الخلاف ليس حول فرضية ارتقاء الحياة – فهناك آيات في القرآن في رأيي تشير إلى ذلك، أي أن شجرة الحياة قد يكون أصلها واحد – ولكن الخلاف مع الداروينية أو نظرية الارتقاء الدارويني هو حول: هل تنوع الكائنات الحية حصل بآلية عمياء (الانتخاب الطبيعي يعمل على طفرات جينية عشوائية غير مقصودة) أم بخلق خالق؟
أما الآيات التي قد تشير إلى الأصل الواحد للكائنات الحية فهي -حسب اجتهادي- قوله تعالى: “وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير” (النور:45)، وقوله: “وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً” (الفرقان:54).[iv]
كما أن المعارضين لفرضيات “نظرية الارتقاء” لا ينكرون التكيف وإنما ينكرون مرة أخرى حصول التكيف بسبب فرضية الانتخاب الطبيعي لطفرات عشوائية غير مقصودة حدثت اتفاقا أي مصادفة مرة كل بعضة ملايين سنة[v].
خلافٌ فلسفي
لذا فإن الخلاف على أصل الحياة وتنوعها ليس في حقيقته خلاف علمي وإنما خلاف فلسفي خارج نطاق العلم بمعناه الغربي الحديث science؛ أي خارج نطاق التجريبية. يقول (أوين جنجرش) أستاذ علم الفلك وتاريخ العلوم في قسم الفيزياء الفلكية في جامعة هارفارد في كتابه الصغير (God Universe- كون الله): “إن أكثر المدافعين عن نظرية الارتقاء مثل (ريتشارد داوكنز) يستخدمون مكانتهم كمتحدثين علميين منبرا مستأسدا للإلحاد. يدعي (داوكنز) أن الارتقاء يجعل الإلحاد تاما فكريا. أظن أنه أي (داوكنز) يصنع بمفرده معتنقين لنظرية “القصد العاقل”[vi] أكثر من الذين يقودون التنظير للقصد العاقل. إن الارتقاء كفلسفة مادية إنما هو عقيدة وعرضها هكذا يرفعها إلى مقام السبب النهائي. إن الارتقائيين الذين ينكرون الغائية الكونية، ويعتقدون بدلا من ذلك بصدفة كونية، يجادلون بعبثية الكون ليس استنادا إلى حقيقة علمية ثابتة وإنما استنادا إلى موقف شخصي من ما بعد الطبيعة. واعتقد أنه لمن المشروع مقاومة هذا التوجه العقلي”[vii]. (ص 75).
لذا تشكك نظرية “القصد العاقل” فيما إذا كانت الطفرات العشوائية تستطيع توليد حجم المعلومات الهائل اللازم لإنتاج أبسط خلية حية اتفاقا (أي مصادفة) ؟[viii].
والآن إلى ترجمة تقريض كتاب: “مليارات الحلق المفقودة”، تأليف: جيفري سايمونس، تقريض: فرتز آر. وارد
قبل فيلسوف العلم (كارل بوبر) بمائة سنة أدرك دارون أن أي نظرية علمية حقيقية يجب أن تشمل إمكانية دحضها. لذا اقترح في عام 1872 أنه إذا وجد عضو معقد (أو كائن) لم يرتق من خطوات صغيرة متعاقبة أو”تعديلات” فان نظريته سوف تنهار تماما. مجمل كتاب جيفري سايمونس هذا هو محاولة فعل ذلك بالضبط. فمن خلال استطلاعات سريعة لمملكتي النبات والحيوان يجد أمثلة عديدة لكائنات حية ذات سمات فريدة جدا ومتكيفة بحيث لا يمكن أن تكون قد ارتقت من خلال خطوات صغيرة متتابعة.
إن إعادة ذكر الأمثلة الكثيرة التي يعرضها سايمونس لهو خارج نطاق هذا التقريض. وهو يقدم نقدين لنظرية دارون. الأول: هو انعدام أحافير الأسلاف. فمن خلال مناقشته للخفافيش، على سبيل المثال، يلاحظ سايمونس أن أحافير الخفافيش تمتد على مدى خمسين مليون سنة إلى الوراء وكل أحفورة تظهر سمات الخفافيش المميزة (الحالية) بما في ذلك القدرة على التحديد بالصدى والأوتار التي تسمح للخفاش بالتعلق رأسا على عقب. ليس هناك-يلاحظ سايمونس- أي أسلاف تكشف قصورا في المقدرة على التعلق أو أسلاف ترتطم بحوائط الكهف (بسبب بدائية السونار). بالإضافة لنقاط مشابهة يعرضها عن اليعسوب.
النقد الثاني: وهو أكثر شيوعا من الأول، هو أنه لمن المستحيل تصور خطوات متوسطة ناجحة لبعض سمات النباتات والحيوانات. فيلاحظ أن بعض الأنواع متكيف جدا إلى حد أن لها صلات تكافلية مع حيوانات أو نباتات أخرى. وحيث أن هذا السلوك والخصال الجسمية المرافقة له مرتبطة معا ارتباطا وثيقا فإنه يشق على المرء تخيل كيف أن تكون هذه الصلات قد ارتقت ارتقاء مستقلا. على سبيل المثال: البكتيريا التي داخل الأمعاء التي تسمح لنا بالانتفاع بفيتامين K.
قد يدفع الارتقائيون بالقول أنه لم يتبق من الأحافير سوى اليسير. بيد أنه ينبغي ملاحظة أنه إذا كان داورين محقا فإننا نتوقع أن نجد غالبا أحافير متوسطة حيث أن تعديلات طفيفة متعاقبة ستخلف أحافير متوسطة أكثر من الأحافير الحديثة حتى لو لم يتبق من الأحافير إلا اليسير. غير أنه من اللافت للنظر أننا لا نجد ذلك (6)[ix].
_____________________________________
الهوامش:
- الدوغماتية: الجمود الفكري، والتعصب لفكرة معينة دون قبول النقاش فيها.
- العقيدة الداروينية أي الاعتقاد بان الحياة نشأت طبيعيا وتنوعت طبيعيا كذلك. وبالتالي ليس هناك خالق ولا غاية من الخلق والوجود.
- أغلب هذه الطفرات الجينية هي أخطاء النسخ أثناء انقسام الخلية التي تسمى point mutations أو الطفرات النقطية والطفرة النقطية هي طفرة تؤثر في نيتودة واحدة فقط nucleotide والنيتودة هي أصغر وحدة تؤلف جزئي الحامض النووي الوراثي الDNA. وهن أربع قواعد أو وحدات: A,G,T,C(الرموز الأربعة التي تؤلف شفرة الحامض النووي الوراثي لأي كائن حي). والطفرة هي أي تغير وراثي أي ترثه الذرية من الأبوين.
- هذه فرضية وليست أمرا تمت ملاحظته ملاحظة علمية (أي أن الكائنات الحية كلها تعود إلى خلية حية واحدة بدائية نشأت اتفاقا، في وسط مائي قديم جدا). لكن الخلاف ليس حول كيف خلق الله الكائنات الحية على الأرض وإنما أساس الخلاف حول إنكار نظرية الارتقاء الدارويني للخلق رأسا، وإصرارها على أن سبب الحياة طبيعي وسبب تنوعها طبيعي كذلك. تأمل في هذا الصدد قوله تعالى: ” مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا” (الكهف: 51). تفكر في الربط بين عدم شهود الخلق والمضلين. الجدير بالملاحظة في هذا السياق أيضا أن عالم الخلية الدكتور رولند هيرتش Roland Hirsch يعرض استنادا إلى أمور من جملتها الانتقال الجيني الأفقي فرضية خلايا بدائية متعددة وليس أصلا خلويا واحدا(انظر: Uncommon Dissent، ص 215-231).
- ما يقولونه هو أن التكيف حصل بسبب حاجة الكائن الحي للتلاؤم مع بيئته أي أن التكيف حصل بقصد قاصد وليس بسبب آلية طبيعية تنتخب طفرات جينية عشوائية غير مقصودة.
- القصد العاقل أو التعمد الذكي intelligent design، هو النظرية التي بدأت في الولايات المتحدة منذ عقدين من قبل طائفة من علماء الأحياء والفلاسفة القائلة بأن هناك شواهد ساحقة على تدخل عاقل intelligent في عملية ارتقاء الكائنات الحية وإنها لم تظهر نتيجة آلية عمياء تنتخب طفرات عشوائية، وإنما بقصد.
- مثال عرضه جنجرش في كتابه: ذيل البكتيريا Coli (إي كولي) وهو زائدة شبيهة بالسوط تدور بالضبط مثل زعانف محرك القارب فتتحرك البكتيريا، يلزم تكونه سلسلة من البروتينات وبدون كامل العدد لا يدور أبدا، أي لا يعمل. لذا فإنه من السذاجة القول أن جميع البروتينات المطلوبة تركبت معا عن طريقة مصادفة عمياء أو أنها ارتقت خطوة خطوة.
- على سبيل المثال: Mycoplasma هي أبسط خلية معروفة للعلم. لكنها تتألف من أربعين ألف جزئي بروتين من 600 نوع بروتيني ولها أيضا حمض نووي وراثي DNA وحمض ريبي RNA. إن احتمال تركيب جزيء بروتين واحد اتفاقا بالمصادفة هو 1 من 10 أس 113 أي الرقم واحد يتبعه 114 صفرا!.
- ألزمت هذه الفجوات في السجل الأحفوري بعض الداروينيين بالقول بالقفزات وهي النظرية المسماة punctuated equilibrium، التوازن العاجل. إذ يقولون أن الفراغات في السجل الأحفوري حقيقية وإنها تؤكد تغييرات مفاجأة حصلت في الحيوانات في الماضي السحيق. لذا يقولون أن الارتقاء إنما حصل عن طريق تغيرات كبيرة مفاجأة لمجموعات سكانية معزولة قليلة العدد. بعبارة أخرى إنكار الارتقاء التدريجي وما يرافقه من فرضيات.
_______________________________________
المصدر: بتصرف عن جريدة الوطن العُمانية، نُشر بتاريخ 23/3/2014