يتبنى المنظور الإسلامي (والديني بصفة عامة) نظرية أن منظومة الإنسان الأخلاقية منظومة فطرية، يقوم الدين بتعميق وتفصيل ما فيها من مفاهيم الصواب والخطأ، وإخبار الإنسان بما ينبني عليها من ثواب وعقاب. وأرى أن اتباع بعض الملاحدة لمكارم الأخلاق يرجع جزئياً إلى فطرية هذه المفاهيم، وأيضاً إلى ما ترسخ في نفوس البشر من أخلاق صارت بمثابة العُرف، بعد أن أصلته الديانات عبر الأزمان السابقة.
الداروينية وراء أخلاق الإله وأنبيائه!
في كتاب “وهم الإله”، يتصدى ريتشارد دوكنز في الفصلين الخامس والسادس لإثبات مفهوم النشأة التطورية للديانات، ويجتهد في قطع علاقة الأخلاق بالدين والفطرة، ويروج للقول بأنها مكتسبة، قام الانتخاب الطبيعي بدعمها في النفس البشرية.
ويصف دوكنز الإله كما يعرضه العهد القديم بأسوأ الصفات، ويعتبر دوكنز أن تلك الصفات المنحطة للإله وأنبيائه (كما جاءت في العهد القديم) تتطابق تماماً مع الأخلاق التي يفرزها التطور، وتنسجم مع الصراع من أجل البقاء والمحافظة على الجينات (الجين الأناني)، ومن ثم لا ينبغي العتب على بني إسرائيل وأنبيائهم لأنهم تصرفوا كآلات جينية تسعى لمصلحتها تبعاً للحتمية الجينية!
من أين ينبغي أن نستمد أخلاقنا؟
وبالرغم من أن دوكنز يُرجع نشأة القيم الأخلاقية إلى التطور، فإنه يرفض أن تكون أخلاق التطور هي مرجعيتنا، ويكرر هذا المعنى في كتاباته كثيراً. انظر إلى قوله: إن التطور الدارويني لا يُنتج إلا أمثال هتلر، والمجتمع الدارويني لا يكون إلا مجتمعاً فاشيستيا ينتشر فيه التعصب العنصري والتصفية العرقية. لذلك يضيف في كتاب (الجين الأناني): لا أتحمس للأخلاق التي أنشأها التطور، فإذا كنا قد ولدنا أنانيين، فعلينا إذا أردنا أن نحيا في مجتمع يتعاون أفراده لتحقيق أهداف سامية ألا نتوقع مساعدة من طبيعتنا البيولوجية، ومن ثم علينا أن نُعلِّم أبناءنا الكرم والإيثار.
وفي نفس الوقت يرفض دوكنز أن نربي أبناءنا تربية دينية، ويعتبرها نوعاً من سوء استعمال الأطفال Child abuse، إذ تزرع في عقولهم مفاهيم خاطئة دون أن يكون لهم القدرة على مناقشتها والاعتراض عليها، مما يقضي على حرية اختيارهم عندما يكبرون. ويتمادى دوكنز في ذلك ويقول: ” إذا كان اغتصاب رجال الكهنوت للأطفال أمراً مستهجناً، فإن الأسوأ منه تحطيمهم نفسياً بجعلهم يحيون حياتهم كلها في خوف ورعب من النار”. ونحن قد نوافق دوكنز على ما يقول بدعوى أن نترك لأبنائنا حرية الاختيار عندما يكبرون! بشرط أن يكف المجتمع عن بث مفاهيم الإلحاد فيهم حتى ينشئوا متوازين. أليس كذلك يادوكنز؟!
يوقع هذا الطرح دوكنز في موقف متضارب شديد الغرابة. فهو يرى أن القيم الأخلاقية ليس لها مصدر سماوي سواء من الفطرة أو من الدين، وفي نفس الوقت يرى أنه لا ينبغي أن نستمد قيمنا من الطبيعة، فهي لا تقدم إلا الصراعّ فمن أين إذاً نستوحي القيم التي ينصحنا باتباعها؟ لذلك يقدم دوكنز طرحاً غريباً للخروج من هذا المأزق:
مقاييس دوكنز
في صحوة أخلاقية، يؤكد دوكنز أننا لا ينبغي أن نستمد أخلاقنا من مفاهيم الصراع الدارويني كما وردت في كتب أصل الأنواع وأصل الإنسان والجين الأناني والعهد القديم! بل علينا أن نتأمل هذه الكتب لنختار منها المفاهيم الحسنة Nice لنتخلق بها وندع الباقي. والسؤال هنا: ما هو مقياسنا للمفهوم الحسن؟
ليحدد مقاييس هذا الحُسن ينتقل بنا دوكنز إلى “العهد الجديد” ويقول: ” لقد كان المسيح من أعظم مصلحي التاريخ، وقد كان متديناً لقد رفض إله اليهود (يهوذا) القاسي المخادع، وطرح بدلاً منه إلهاً حسناً ظريفاً لطيفاً، فلم يكن غريباً أنهم “صلبوه”.
وفي موقع آخر يقول دوكنز “لقد رفض المسيح أن يستمد قيمه من البيئة اليهودية التي نشأ فيها (بيئة العهد القديم)، بل ونهى عن ذلك، وبذلك أصبح مثالاً للتدين الحق.
ونحن نسأل دوكنز: من أين استمد المسيح قيمه ومرجعيته وأخلاقه؟ لا شك أن مصدرها لم يكن الانتخاب الطبيعي، تلك العملية البذيئة الرديئة المؤذية Deeply nasty (هكذا يصفها دوكنز)، والتي وصفها دارون بأنها عمل شيطاني تقوم به الطبيعة القاسية عديمة الرحمة، التي لا تراعي إلا الأقوياء والشرسين.
تمسكاً بالداروينية وتهرباً من الإقرار بأن أخلاق اللطف والظرف والحُسن– التي يدعو إليها المسيح– سماوية المصدر، يخبرنا دوكنز أن الانتخاب الطبيعي أفرز (كيف؟ لاندري) عدداَ من القيم بالغة اللطف Supernice (كالإيثار والكرم والتعاطف والشفقة والحنو) ليتعامل بها أفراد المجموعة الواحدة لتعينهم على البقاء مع عدم التخلي عن قيم الصراع في التعامل مع الآخرين. وبالرغم من أن الطبيعة تعتبر الأخلاق بالغة اللطف سفه وسخف، فإن علينا أن نتحراها ونقطفها Picks an chooses وأن ندع الأخلاق الدنية البذيئة.
وإذا أردنا أن نكون واسعي الصدر مع دوكنز إلى أقصى حد، وقَبِلنا تمييزه للأخلاق إلى نوعين، أخلاق لطيفة للتعامل مع المقربين وعداء نتعامل به مع المنافسين، فكيف نفسر وجود مفاهيم أخلاقية حسنة تمارسها الكائنات تجاه كائنات من أنواع أخرى( كحنو الإنسان على الحيوان)، وهو ما يُعرف بـ “عالمية الأخلاق Universal” مما يتعارض مع التطور؟ لم يكن السؤال مباغتاً لدوكنز، فقد أجاب من فوره “بأن عالمية الأخلاق” خطأ تطوري Evolutionary Misfiring أي نيران صديقة، بلغة العصر! _____________________________________
المصدر: بتصرف عن كتاب خرافة الإلحاد، د. عمرو شريف، القاهرة، الشروق الدولية، ط2، 2014، ص: 352:349