أسعد لحظة..!

سألت نفسي عن أسعد لحظة عشتها..؟؟

د. مصطفى محمود

شريط الذكريات

مر بخاطري شريط طويل من المشاهد.. لحظة رأيت أول قصة تنشر لي.. ولحظة تخرجت من كلية الطب.. ولحظة…

مر بخاطري شريط طويل من المشاهد..  لحظة رأيت أول قصة تنشر لي.. ولحظة تخرجت من كلية الطب.. ولحظة حصلت على جائزة الدولة في الأدب..  ونشوة الحب الأول والسفر الأول.. والخروج إلى العالم الكبير متجولاً بين ربوع غابات

إفريقيا العذراء .. وطائراً على ألمانيا وسويسرا والنمسا وإيطاليا وإنجلترا وفرنسا وأمريكا.. ولحظت قبضة أول ألف جنيه.. ولحظة وضعت أول لبنة في المركز الإسلامي بالدقي.. استعرضت كل تلك اللحظات وقلت في سري لا.. ليست هذه اللحظة

بل هي لحظة أخرى ذات مساء.. لحظة اختلط فيها الفرح بالدمع بالشكر بالبهجة بالحبور حينما سجدت لله فشعرت أن كل شيء في بدني يسجد.. قلبي يسجد.. عظامي تسجد.. أحشائي تسجد.. عقلي يسجد..  ضميري يسجد.. روحي تسجد…

حينما سكت داخلي القلق وكف الاحتجاج ورأيت الحكمة في العدل فارتضيته، ورأيت كل فعل الله خير، وكل تصريفه عدل، وكل قضائه رحمة، وكل بلائه حب.. في تلك اللحظة أحسست وأنا أسجد أني أعود إلى وطني الحقيقي الذي جئت منه وأدركت هويتي وانتسابي وعرفت من أنا.. وأنه لا أنا.. بل هو.. ولا غيره…

انتهى الكبر وتبخر العناد وسكن التمرد وانجابت غشاوات الظلمة وكأنما كنت أختنق تحت الماء ثم أخرجت رأسي فجأة من اللُّجة لأرى النور وأشاهد الدنيا وآخذ شهيقا عميقا وأتنفس بحرية وانطلاق.. وأي حرية.. وأي انطلاق يا إلهي.. لكأنما كنت مبعدا منفيا مطرودا، أو سجينا مكبلا معتقلا في الأصفاد ثم فك سجني.. وكأنما كنت أدور كالدابة على عينيها حجاب ثم رفع الحجاب…

نعم.. لحظتها فقط تحررت.

كانت.. أسعد لحظة!

نعم … تلك كانت الحرية الحقة.. حينما بلغت غاية العبودية لله.. وفككت عن يدي القيود التي تقيدني بالدنيا وآلهتها المزيفة.. المال والمجد والشهرة والجاه والسلطة واللذة والغلبة والقوة…

وشعرت أني لم أعد محتاجا لأحد ولا لشيء لأني أصبحت في كنف ملك الملوك الذي يملك كل شيء…

كانت لحظة ولكن بطول الأبد.. نعم تأبدت في الشعور وفي الوجدان وألقت بظلها على ما بقي من عمر ولكنها لم تتكرر.. فما أكثر ما سجدت بعد ذلك دون أن أبلغ هذا التجرد والخلوص وما أكثر ما حاولت دون جدوى.. فما تأتي تلك اللحظات بجهد العبد ورغبته بل بفضل الرب…

ولقد عرفت في تلك اللحظة أن تلك هي السعادة الحقة وتلك هي جنة الأرض التي لا يساويها أي كسب مادي أو معنوي

يقول الله سبحانه لنبيه عليه الصلاة والسلام “… وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب” (العلق:19).

اقرأ أيضا:

العبودية لله.. كرامةٌ للنفس وتحررٌ من قيود الدنيا

“أَرنِي الله”.. معرفة الله بصفاءِ الأروَاح

_______________________________________

المصدر: من كتاب / السؤال الحائر للدكتور مصطفى محمود

مواضيع ذات صلة