* كيف يتسق احترام الإسلام للعقل ومكانته ودعوته الدائمة للتفكر والتأمل والتدبر مع دعوته للإيمان بغيبيات لا يوجد عليها أي دليل مادي.. كالإيمان بالجنة والنار والجن والملائكة، بل ولا يمكن حتى تصورها بالعقل… أليس هذا تعارضا واضحا؟!
** بداية.. الغيب والشهود نقطتان متقابلتان، عالم الشهود هو عالم المحسوسات، وعالم الغيب هو ما وراء الحس. لأنّ «الغيب» في الأصل يعني ما بطن وخفي. وقيل عن عالم ما وراء المحسوسات «غيب» لخفائه عن حواسّنا. والتقابل بين العالمين مذكور في آيات عديدة في القرآن الكريم كقوله تعالى: “عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ” (الحشر: 22).
أما ما يتعلق بتلك الشبهة أو بذلك التساؤل فقد استند أصحابها في إثارتها إلى دليل لا يقبله العقل ولا الواقع المعيش؛ وذلك أنهم أنكروا أمور الغيب التي أخبرنا بها الله – عز وجل – ورسوله – صلى الله عليه وسلم – جميعها، مستندين إلى أن هذه الأمور الغيبية لا تخضع لإدراكهم الحسي، ذاهبين إلى أن عقولهم لا تستسيغ الإيمان بشيء لا يدرك بالحواس.
إن العقل الذي احتكم إليه هؤلاء لا يقبل بحال الاستناد إلى ما استندوا إليه من كون الإيمان بوجود الشيء فرع عن إدراك ذلك الشيء إدراكا حسيا؛ وذلك أن عدم إدراك الشيء لا ينفي وجوده، فكم من أشياء في واقعنا المعيش لا نراها، ومع ذلك فلا يصح لعاقل أن ينفي وجودها.
فهذه الكهرباء التي تسري في أسلاك، فهل رأيتموها أو سمعتم صوتها؟! ثم هل بإمكانكم أن تنفوا وجودها لعدم رؤيتها؟!
وهذا الهواء الذي منحنا الله إياه، ولا حياة لكائن إذا افتقده، هل شاهدتموه أو سمعتم صوته؟! وهل يتنسى لكم ألا تعترفوا بوجوده؟!
إن إنكار الماديين الحسيين للغيبيات – أمر بدهي لا يدعو إلى العجب؛ وذلك أنهم لم يؤمنوا بداية بالله – عز وجل – الذي أمرنا أن نؤمن بالغيب، وجعل الإيمان به أول صفة من صفات المتقين، يقول سبحانه وتعالى: “الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ“(البقرة:1-3).
الدليل المادي على وجود الغيب
ومع ذلك فإننا يمكن أن نأخذ من الدليل المادي ما يؤكد للمشككين أن الغيب قائم وموجود.. وأننا إن لم ندركه بعقولنا وأبصارنا فليس معنى ذلك أنه غير موجود يؤدي مهمته في الحياة..
“وقبل أن نبدأ الحديث لابد أن نعرف أن هناك نوعين من الغيب.. غيبا نسبيا، وغيبا مطلقا..
والغيب النسبي هو ما لا تعلمه أنت ولكن يعلمه غيرك.. هب أن رئيس دولة ما اختار أحد الناس ليتولى منصب الوزارة.. ولكن هذا الاختيار لم يبلغ صاحبه.. إذا فهو غيب عن صاحبه.. ولكنه معلوم لرئيس الدولة.
أما الغيب المطلق فهو غير معلوم إلا لله سبحانه وتعالى وقد أعطانا الدليل على ذلك حتى نعرف أن ما سيقع في هذا الكون موجود عند الله ومعلوم ومعد، بحيث يخرج إلى الدنيا بكلمة “كُن” ولذلك فإننا لابد أن نلتفت إلى قوله تعالى: “إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ” (يس:82) أي أن الله سبحانه وتعالى حين يريد أن يظهر لنا شيئا يمارس مهمته في الحياة.. فإنما يقول له كن.. فيخرج بكلمة كن من علم الله إلى كون الله فنعرفه، ولابد أن نلتفت أيضا إلى قوله تعالى: “يقول له” فمعنى ذلك أن هذا الشيء موجود.. لأن الخطاب هنا لشيء موجود فعلا.
إذا فكل أحداث الكون وكل أحداث الدنيا والآخرة موجودة في علم الله تعالى.. فإذا قال لها” “كن” خرجت إلى علم الناس.. ولذلك فإن يوم البعث مثلا موجود بكل تفاصيله وأحداثه في علم الله، وكذلك الجنة والنار فإذا جاء وقتهما أظهرهما الله تعالى للعيان”.
نقطةٌ فاصلة
وبعيدا عن فكرة إثبات الغيبيات ماديا من عدمه وكون الأمر ممكنا عقلا أم لا يظل التساؤل الأهم: هل من حكمة خلف الإيمان بتلك الغيبيات غير إثبات معلوم من الدين؟.. هل من مصلحة دنيوية تعود على الفرد جراء إيمانه بالجنة والنار والبعث والحساب؟
لا شك أن الإيمان بالغيب هو بالضبط النقطة الفاصلة الاُولى بين المؤمنين بالأديان السماوية، وبين منكري الخالق والوحي والقيامة. ومن هنا كان الإيمان بالغيب أول سمة ذكرت للمتّقين.
المؤمنون خرقوا طوق العالم المادي، واجتازوا جدرانه، إنّهم بهذه الرؤية الواسعة مرتبطون بعالم كبير لا متناه. بينما يصرّ معارضوهم على جعل الإنسان محصوراً في موقعه من العالم المادي.
لو قارنّا بين فهم الفريقين ورؤيتهما، لعرفنا أن: «المؤمنين بالغيب» يعتقدون أن عالم الوجود أكبر وأوسع بكثير من هذا العالم المحسوس، وخالق عالم الوجود غير متناه في العلم والقدرة والإدراك، وأنّه أزليّ وأبديّ. وأنّه صمّم هذا العالم وفق نظام دقيق مدروس. ويعتقدون أنّ الإنسان بما يحمله من روح إنسانية يسمو بكثير على سائر الموجودات. وأنّ الموت ليس بمعنى العدم والفناء، بل هو مرحلة تكاملية في الإنسان، ونافذة تطل على عالم أوسع وأكبر.
بينما الإنسان المادي يعتقد أن عالم الوجود محدود بما نلمسه ونراه. وأن العالم وليد مجموعة من القوانين الطبيعية العمياء الخالية من أي هدف أو تخطيط أو عقل أو شعور. والإنسان جزء من الطبيعة ينتهي وجوده بموته، يتلاشى بدنه، وتندمج أجزاؤه مرّة اُخرى بالمواد الطبيعية. فلا بقاء للإنسان، وليس ثمّة فاصلة كبيرة بينه وبين سائر الحيوانات!
ما أكبر الهوة التي تفصل بين هاتين الرؤيتين للكون والحياة! وما أعظم الفرق بين ما تفرزه كل رؤية، من حياة اجتماعية وسلوك ونظام!
المراجع:
- موقع بيان الإسلام للرد على الشبهات
http://www.bayanelislam.net/Suspicion.aspx?id=01-03-0007&value=&type=
- الأدلة المادية على وجود الخالق، فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، القاهرة، أخبار اليوم، ص:48،47.
- الإيمان بالغيب الفاصلة الأولى بين الإيمان والإلحاد