أفتني في شأنِ هذا الجمال الذي لا يُقاوم؟! أفتني في شأن هذا الطير السابح في جوّ السماء، قصِياً في عُلُوِّه، عصِيّاً في سُمُوِّه، من يسّر صيده، وقّب بعده، وطيّب طعمه؟!
د. حسام الدين حامد
أفتني! أفتني في شأن هذه المجرّات المترامية والأفلاك المتباعدة!؟ أفتني في كواكب هذه «المجموعة» جعلوا بعضها من بعض، مالها خلت من مقومات حياةٍ قد اجتمعت لهذه الأرض، من غلافٍ يحفظ لها ما فيها، ويصد عنها عواديها، وفصولٍ أربعةٍ تعاقبت وانتظمت، وهيئةٍ كالكرة بُسِط سطحها ومدّت، وجبالٍ راسياتٍ أمسكتها فما اضطربت؟! أفتني في هذه الأرض قد جُعلت كفاتاً، حملت الناس أحياءً وضمّتهم رفاتاً؟! أفتني في هذه الأرض امتازت بجاذبيةٍ يسرت السير على سطحها، واتسعت مناكِبُها، وفُجِّجَت سُبُلُها، فحَسُنَت فراشاً ومهاداً، وصَلُحَت هجرةً ومقاماً!؟
«بالمقارنة بغالبية الكواكب فإنّ هذه الأرض تُعد جنّة، وأجزاء الأرض هي جنّة بأي مقياس.. ما هي احتمالات أن كوكباً التُقط عشوائياً تتوفر فيه كل هذه الخصائص اللطيفة؟! حتى أفضل الحسابات تفاؤلاً كانت لتجعل النسبة أقل من واحد في المليون!»..
الملحد الشهير ريتشارد دوكنز.
أفتني في شأن تلك السماء وقد كان ينبغي لها أن تكون صخوراً تتصادم، وأحجاراً تتساقط، وظلاماً تتطاير فيه شعاليل النيران؟! أفتني في شأنها وقد كان ينبغي لها أن تبعث رعباً يتضاعف، وخوفاً يتزايد، ووحشةً لا تنتهي عند حد؟!
أفتني في شأنها وقد كان ينبغي لها أن تكون بؤساً بالنهار وغربةً بالليل؟! فمالها ازدانت بنورٍ وسراج، وزُيِّنت بالمصابيح والأبراج؟! مالها ونجومها كحبّات لؤلؤٍ تلمع في الظُّلم، وألوانها ساحةُ جمالٍ تُذهل البصر؟! مالها تُؤنس الساهرين، وتُلهم الناظمين؟! مالها تتقلب بين نهارٍ ينشطون فيه، وليلٍ يسكنون إليه؟!
«عليّ أن أعترف أن الطبيعة تبدو لي أحياناً أجمل بكثيرٍ مما ينبغي لها أن تكون!»..
الفيزيائي الملحد ستفين واينبرغ
أفتني في شأنِ هذا الجمال الذي لا يُقاوم؟! أفتني في شأن هذا الطير السابح في جوّ السماء، قصِياً في عُلُوِّه، عصِيّاً في سُمُوِّه، من يسّر صيده، وقّب بعده، وطيّب طعمه؟! أفتني فيما يدُبُّ على الأرضِ من الحيوانِ، وما في الأنعامِ من الإنعامِ، من نفع نقلةٍ وملبسٍ وزينةٍ وطعام، ولبنٍ خالصٍ سائغٍ شرابه، قد تيسّر السبيل لطلابه؟!
«ومهما يكن من أمر، فإن هذه المسائل الكوسمولوجية قد تجد لها حلّاً، ولكن مهما كان أمر النموذج الذي ستتبين صحته، فإنّه ليس بينها نموذجٌ مريحٌ ومطمئِن، إذ يكاد يستحيل على بني الإنسان ألا يعتقدوا بوجود علاقةٍ خاصةٍ بينهم وبين الكون، وأن الحياة ليست مجرد نهايةٍ مضحكةٍ لعوارضَ متتاليةٍ تعود في الماضي إلى الدقائق الثلاث الأولى، بل نحن بشكلٍ ما نميل إلى الاعتقاد بأننا كنا منذ البداية في التصميم وأننا غاية الوجود، فها أنا ذا عند كتابة هذه السطور، في طائرة تحلق فوق ولاية فيومينج على ارتفاع 10000 متر، في طريق العودة من سان فرانسيسكو إلى بوسطن، والأرض تحتي تبدو حانيةً مريحة، غيومٌ مخمليةٌ هنا وهناك، ثلوجٌ متوردةٌ تحت أشعة الشمس الغاربة، طرقات تمتد من مدينةٍ إلى أخرى عبر البلاد، فما أصعب أن نصدق أن هذا كله ليس سوى جزءٍ ضئيلٍ من كونٍ ماحقٍ عدواني، بل وأصعب من ذلك أن نتحقق أن هذا الكون قد تطور من ظروفٍ ابتدائيةٍ تكاد تكون غير مألوفة، ولا يمكن تصورها إلا بالجهد الجهيد، وأنّه سيخبو يوماً ما في برودة لا حدود لها أو أنه سيصير إلى جحيمٍ مسعور، حقاً إن الكون كلما بدا طيِّعاً للإدراك، بدا عبثاً غير مقبول… فالسعي عن رضا لفهم الكون هو من الأشياء النادرة التي تسمو بالإنسان فوق مستوى الترهات، وتنعم عليه بشيءٍ من شرف المشاركة في هذه المسرحية المأساوية»!.. الفيزيائي الملحد ستيفين واينبرغ!
أفتني في شأن الأرض الحانية، والغيوم المخملية، والثلوج المتوردة! في شأن أوراق العشب تداعب بخار الماء فيكون الندى، ثم يداعب الندى أوراق العشب فيبقى رطباً؟! أفتني في شأن بذرةٍ تبعث في النفس فكرةً بعد فكرة؟! كيف تهمس لأرضٍ صلبةٍ فتلين لمستدقِّ عروقها، وتسترسل فتفشي فيها سر نموها؟ تمضي في الأرض بجذرها، وتشُقُّ إلى السماءِ طريقها، فإذا بها بعد الضآلة شجرةٌ تامة، استغلظت واستوت على ساقها، طيبةً ذات حسنٍ وجمالٍ يُعجِب من يزرع، يأتي الطفل الضعيف يقطف ثمرها فلا تأبى ولا تتمنع؟!
«وفي قلبِ كلّ جمالٍ، يكمن شيءٌ لا بشري!»..
الفيلسوف الوجودي ألبير كامو!
أفتني في شأن الحقيقة الفائتة، والفريضة الغائبة؟! لماذا كانت تحثّني تفاصيلُ الجمال على قول «الله»!؟ لماذا كانت تسري في جسدي قشعريرةٌ ما حين تطالعني مظاهر العظمة؟! أليس الأمر برمته ليس إلا قوانين صمّاء تعمل منذ الأزل؟! فحسناً فعلتُ إذن حين وأدتُ هذا التأثر الذي يعتريني؟! حسناً فعلتُ حين درّبتُ نفسي على عدم الاكتراث، واكتسبتُ مناعةً تقي من روعة الاندهاش؟! فليتك تُفتيني في شأني، مالي صرتُ أعجز عن نظم القوافي، وأعاني من فقر الخواطر؟!
«بصفتي ملحدة، فإنني أبغض هذا الحصاد من البيانات العدوانية ضد الدين الصادرة من الساخرين المحترفين، والمتسكعين، والعلماء المتحفزين ثقافياً أصحاب الخيال المعقّد، أبغض العالم الفكري الضيّق الذي يقترحونه لأنّه في الحقيقة محبطٌ للغاية، وهو قاتلٌ لمستقبل الفن!»..
أستاذة النقد الفني الأمريكية الملحدة كاميليا باجليا.
أفتني في حقيقة القلوب!
أفتني في رجلٍ أتاك بقلبٍ سريع التعلق فيّاض المشاعر، تقصر جوارحه عن مجاراة قلبه حتى كان يعدُّ نفسه منافقاً، ثمّ انصرفَ عنك بقلبٍ عليلٍ تعلوه أطلال الحياة، يجعل من الطبيعة صنماً جامداً لا قيمة له، فتجعل هي منه مضغة لحمٍ جامدةً لا روح فيه، وكأنّ كلّاً منهما لما اكتفى بالآخر أهلكَه.
أفتني في شأن هذا الرجل كيف أفك أسره؟! ثمّ أفتني في طبيعةٍ كانت تراود جَناني وتغري كياني، ثم صارت – بعد لقائي إياك- رمز الكآبة وآية السآمة، لا تنفع سائلاً، ولا تهدي حائراً، وبعد أن كانت تُسأل «ماذا تقولين؟!»، أمست يُسأل عنها «ماذا قيل فيها؟»! أفتني في السبيل إلى هذه الطبيعة المغدورة؟! أفتني من غير فلسفة!؟ أفتني، ليتني لم أعرفك!؟
«نحن أبناء الفوضى، والمكوّن الأصيل لكل تغيُّر هو الفناء، في الجذر ليس ثمّ إلا الفساد وامتداد الفوضى الذي لا يمكن اقتلاعه، الغاية ضائعةٌ وما تبقى هو الطريق، هذه هي الكآبة التي يجب أن نتقبلها حين نمعم النظر بعمقٍ وعقلانيةٍ في قلب الكون!»..
الكيميائي البريطاني الملحد بيتر أتكنز!
_________________________________________
المصدر: بتصرف يسير عن كتاب الإلحاد.. وثوقية التوهم وخواء العدم، مركز تفكر للبحوث والدراسات، ط1، 2015.