هل يوجد طقس أو شعيرة أخرى في أي دين آخر يتضاعف أجره وتزيد أهميته، عندما يطبق جماعياً غير شريعة الصلاة الإسلامية؟
أحمد خيري العمري
إن روحية المقاصد ومعانيها موجودة في كل ركن من أركان الإسلام، في كل جزئية من جزئياته، في كل حكم من أحكامه، وكل حد من حدوده.
ولو تأملنا في أركان الإسلام لوجدنا تلك المقاصد الاجتماعية التي تخرج عن إطار الطقوس والشعائر التقليدية إلى مساحة أوسع بكثير: البناء الاجتماعي المتماسك، والنظام المتكامل الذي وضعه الإسلام.
للوهلة الأولى قد تبدو الصلاة مثلها مثل الصلاة في الأديان كافة بغض النظر عن اختلاف الحركات والهيئات، ففي كل الأديان (سماوية وغيرها) توجد صلاة لمعبود ما: دعاء وتضرع وتسبيح وتمجيد، أليس ذلك هو (مخ) الصلاة الإسلامية أيضاً؟ للوهلة الأولى، نعم. ولكن لو تأملنا في سياق هذه الصلاة لوجدناها تختلف تماماً، إنها أبعد ما تكون عن اليوغا أو الأيروبيك النفسي، أو محض التأمل الذي تنزح إليه بقية الصلوات في بقية الأديان. فالنسخة الإسلامية من الصلاة ليست فردية، بل مطبوعة بطابع جماعي لا فكاك عنه، حتى لو صلاها المسلم منفرداً في صحراء خالية. إنه يقف وحده مثلاً لكنه محكوم قطعاً بأن يخاطب ربه بصيغة الجماعة متحدثاً لا عن نفسه فقط بل عن جماعته كلها، عن مجتمعه بأكمله.
وتضع الصلاة الإسلامية بمواقيتها الخمسة الصارمة الفرد المسلم أو الجماعة المسلمة على احتكاك مع الوقت، مع الإحساس بمرور الوقت عبر كل صلاة يصليها، مع الإحساس بحراجة الوقت وأهميته: دقيقتان فقط مثلاً قد تخرج المسلم عن صلاة الفجر بعد شروق الشمس.
والمواقيت الخمسة الصارمة تجعل الفرد/ الجماعة في حالة مراقبة دائمة، إنه لا يحتاج إلى انتظار حالة التأمل والصفاء الذهني، إنه يستحضرها بانتظامه في الصف، وصلاته لإلهه خمس مرات في اليوم، تذكره ترهيباً وترغيباً، واستدراجاً وإقناعاً بكل القيم التي تنهي عن الفحشاء والمنكر الاجتماعيين.
الصلاة الجماعية.. نواة مجتمع ومشروع أمة
وجماعية الصلاة هي أبسط وأوضح مثال على (مقاصدية) الشعائر في الإسلام، كل الأحاديث والآثار التي تؤكد على صلاة الجماعة وفضلها وأجرها هي ببساطة بيان لتوضيح المدى العميق للبعد الاجتماعي للصلاة الذي يساوي (27 مرة) البعد الفردي التأملي المنغلق على نفسه، ما دام أجر صلاة الفرد في جماعة يزيد (27 مرة) على أجرها منفرداً.
هل يوجد طقس أو شعيرة أخرى في أي دين آخر يتضاعف أجره وتزيد أهميته، عندما يطبق جماعياً غير شريعة الصلاة الإسلامية؟ عن مجرد تحول التطبيق الشعائري من الفرد إلى الجماعة يكاد يغير التطبيق كله، حتى لو حافظت الحركات والهيئات على أشكالها، المعنى كله يتغير بهذا التحويل، المغزى منها يصير أكثر تبلوراً ضمن سياق متكامل.
إن الصلاة هنا تكف عن أن تكون تلك الصلة التقليدية بين العبد وربه- على أهمية هذه الصلة- كما هي الحالة في كل الأديان، ولكنها تتوسع لتصير صلة فرد بمجتمع، ومن ثم علاقة هذا المجتمع برب يعبده الجميع.
إن حجم (المراقبة)- الضمير- في عملية جماعية واجتماعية مثل صلاة الجماعة، هو بطبيعة الحال أكبر بكثير منه عندما تكون محض صلاة فردية منعزلة، مهما كانت صادرة عن قلب صادق وخاشع.
إن هذه “المراقبة الجماعية” تنمو بالتدريج لتصير ضميراً اجتماعياً حاكماً يتدخل في حياة الفرد: عمله، وظيفته، وشؤونه الخاصة وعلاقته بالمجتمع، ما دام شيء من هذا كله لا يمكن أن يحدث دون أن يقع ضمن مواقيت الصلاة اليومية الخمسة، التي هي أيضاً مواقيت ممارسة الرقابة.
إن ذوبان (الفرد) في الجماعة عبر شعيرة الصلاة التي هي أهم ركن شعائري إسلامي على الإطلاق، هدف مهم ومقصد نهائي للصلاة نفسها، فما من طريقة أكثر عمقاً وتغلغلاً لتكوين مجتمع متماسكاً مثل طريقة المجتمع الذي يصلي معاً، يقف جنباً إلى جنب أمام إله مطلق عظيم الشأن عظيم القدر، يتضرع معاً ويدعو معاً ويسجد معاً.
بل إن هذه الصلاة تتجاوز قدرتها على تكوين نواة مجتمع واحد إلى تكوين نواة لأمة تتجاوز حدود الجغرافية والأعراف واللغة، فعبر ذلك المحور الممتد من طنجة إلى جاركاتا، وعبر خطوط طول وعرض مختلفة، ولغات متعددة تتجاوز العشر، ومواريث حضارية وتاريخية متباينة، يوجد ذلك الخيط الرفيع الذي يشد سكان هؤلاء المحور جميعاً، فعلى اختلاف بلدانهم وعبر أوقات مختلفة من نهارهم وليلهم، فإن صوت المؤذن يرفع بينهم وتقام صلاة الجماعة حتى لو أن الكثيرين من هؤلاء لا يذهبون إليها، لكنها تظل هناك في أعماق اللاوعي هاجساً دائماً، وخيطاً رفيعاً يربط ذلك المحور بعضه ببعض: على رغم الحدود الجغرافية، وعلى رغم المشاكل السياسية، وعلى رغم التعريفة الجمركية وتأشيرة الانتقال، هذا الخيط هو في شكله الأبسط مجرد إحساس أنك عندما تقوم لتتوضأ وتصلي الفجر مثلاً في سكون الليل وهدوئه، فإنك لست وحدك، بل هناك الملايين غيرك يقومون في فجرهم ليصلوا مثلك.
ولعله غنى عن القول أن هذا الإحساس الرابط لم يُستثمر على الأقل منذ قرون، وأنه لا يزال مجرد إحساس، لكن هذا المقصد غير المتحقق من الصلاة، هو من جملة المقاصد الأخرى المهدرة عموماً، حال أبسط المقاصد وأوضحها: النهي عن الفحشاء والمنكر، أي مقصد الضمير الاجتماعي، وكذلك مقصد التوحيد الاجتماعي الذي صار مهداً مغيباً، وتحولت الصلاة إلى مجرد شعيرة أخرى، طقس آخر يرسم العلاقة بين العبد وربه- كما في بقية الأديان- ويدخل ضمن ما يدخل فيها من تعقيدات، تفتح أبواب الصلاة أمام الأديان، تفتح أبواب الصلاة أمام المنافقين والمرائين، وحتى أصحاب الكبائر، وتفرغ الصلاة من محتواها الاجتماعي ومغزاها. وتصير صلاة الجماعة- التي هي نواة مجتمع ومشروع أمة- صلاة فردية لمجتمع كل فرد فيه منغلق على نفسه. وتصير صلاة الجماعة صلاة لأفراد يصلون منفردين، ولكن تصادف وقوفهم على استقامة واحدة.
وكل أركان الإسلام ومنهياته وأوامره، فرائضه وسننه وواجباته، تحمل روحية المقاصد تلك. كل جزئية فيه، كبرت أم صغرت، تحمل في داخلها ذلك الشمول الذي ينعكس فيه الإسلام كله. كل جزئية، أمر أو فريضة أو نهي، تحليل أو تحريم هي في حقيقتها مرآة تعكس الإسلام كله، روحيته، مقاصده، لبه، حقيقته كلها ممكن أن تتجسد في فريضة واحدة، أو أمر واحد ما دامت تشكل نسقاً متسقاً من بناء متكامل، كل حجر فيه هو نموذج مصغر للبناء كله، مثلما كل خلية وراثية في الجسم تحمل قصة السلالة كلها وتعكس مجمل الملحمة الإنسانية.
إن المقاصد هنا، هي روح الدين الإسلامي كله، ومن دون هذه الروح، لن يبقى منه شيء: هيكل من طقوس وشعائر لعلها لا ترتفع أكثر من شبر واحد فوق رؤوس مؤديها. عندما تُفقد هذه المقاصد، يحدث للدين ما يحدث لأي شيء يفقد روحه.
_____________________________________
المصدر: كتاب البوصلة القرآنية، أحمد خيري العمري، دار الفكر، دمشق، ط4، 2011