التقى مالك بن نبي مع ما انتهى إليه -من قبل- ابن خلدون في مقدمته الأشهر، حين أكد على دور الأخلاق والدين في الحفاظ على إنسانية الإنسان وعدم انحداره إلى مستوى الحيوان…
مقتطف من المقال
د. حازم علي ماهر*
بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح
للعمل في الإسلام مكانة كبيرة، حتى إنه يعد مكونًا أساسيًا من مكونات الإيمان، فالإيمان هو (ما وقر في القلب وصدقه العمل)، هو اعتقاد وقول وعمل، وكل ذلك يمكن أن يدخل ضمن مفردات مفهوم العمل بمعناه العام الذي يشتمل على نوعين متمايزين من الأعمال، وهي: أعمال القلوب (مثل الصدق والإخلاص والتواضع، ومترادفاتها من الصفات الخلقية الحسنة، ومضاداتها من الصفات الخلقية المذمومة، كالرياء والكذب والكبر) وأعمال الجوارح (وهي تشمل كل ما يقوم به الإنسان من أقوال وأفعال عبر لسانه وجوارحه المختلفة، كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
وقد تعرضت المقالات السابقة لما يمكن اعتباره من أعمال القلوب في مواجهة الوهن، حيث استهدفت نزع الوهن من القلوب عبر التفكر في مظاهره وفي أسبابه وفي كيفية التخلص من القابلية له وللاستضعاف بشكل عام، ومحاولة إقناع المسلم بضرورة تغيير صورته الذهنية عن نفسه التي تزيد من التمكين للتسلط الواقع عليه وتدعم استسلامه له، وهو أمر كان ضروريًا قبل التطرق لأعمال الجوارح المرتبطة بأعمال القلوب ارتباطًا لازمًا.
“ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما، وهل يمكن لأحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه. وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم فهي واجبة في كل وقت” (ابن قيم الجوزية، بدائع الفوائد- 3/ 193).
ويكشف هذا الاستقراء -بالغ الأهمية- عن أن التركيز على أعمال الجوارح ينبغي ألا يغفل أبدًا عن استصحاب أعمال القلوب، وأهمها –في هذا الصدد- العزم الأكيد على إحلال القابلية للقوة وللتحرر محل القابلية للاستضعاف وللعبودية لغير الله عز وجل، وشحذ الإرادة المخلصة نحو العمل على الخروج من الوهن المحيط للشخصية المسلمة والمحبط لها، والذي تبين من قبل أنه يتعين –شرعًا وعقلا- العمل على مقاومته غاية الوسع، لما يفرضه الدين الإسلامي من تحرير النفس من الاستكانة والاستسلام لغير الله عز وجل.
حول النهوض الحضاري ودور الأخلاق فيه..
ولعل العمل الأهم الذي ينبغي البدء به -في هذا الإطار الذي نتناول فيه دراسة الجذور الفكرية لأزمتنا الأخلاقية، وخاصة أزمة الوهن- هو ما أسماه أ. د. طه عبد الرحمن: “العمل التزكوي”، ويقصد به “الاجتهاد في التعبد بالقدر الذي يتوصل به إلى تخليص الإنسان من مختلف أشكال الاستعباد” (انظر كتابه -الذي رجعت إليه كثيرًا عند كتابتي لهذا المقال: سؤال العمل- بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، ص 160).
وهذا هو العمل الذي لم يتعرض له كثير ممن كتبوا حول النهوض الحضاري ودور الأخلاق فيه، بينما أشار إليه آخرون –أيضًا- فركزوا على وظيفته الاجتماعية وعلى دوره في المزج بين عناصر بناء الحضارة، لاسيما الحضارة الإسلامية، مثل المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي نبه مرارًا إلى دور الفكرة الدينية الأساس في تكوين الحضارة الإسلامية عبر كبح جماح غرائز الإنسان وتنظيمها من خلال نظام أخلاقي صارم حصَّنه ضد غواية المجتمع الذي يعيش فيه وفي مواجهة تسلط ذلك المجتمع على الخلق ومحاولته استعبادهم، وهو أمر يتعلق بالروح أكثر منه تعلقا بالعقل (راجع ما كتبه حول هذا الدور الأخلاقي والحضاري للفكرة الدينية -والإسلامية تحديدًا- في كل من كتابه: “شروط النهضة”، وكتابه: “ميلاد مجتمع”، وكتابه: “وجهة العالم الإسلامي”).
وقد التقى مالك بن نبي في هذا الطرح مع ما انتهى إليه -من قبل- ابن خلدون في مقدمته الأشهر، حين أكد على دور الأخلاق والدين في الحفاظ على إنسانية الإنسان وعدم انحداره إلى مستوى الحيوان، فكتب يقول: “وإذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيّته وصار مسخا على الحقيقة” (تاريخ ابن خلدون، 1/ 468).
والواقع أن فكرة إعادة الفاعلية إلى العقيدة الدينية واستئناف دورها الاجتماعي فضلا عن تهذيبها لغرائز الفرد (والأمة) هي نفسها الفكرة التي تاه في فهمها بعض المفكرين والأدباء فظنوا أن غياب هذه الفعالية تنفي عن المسلمين صفتهم تلك وتدخلهم تحت مصطلح “الجاهلية”، مما ترتب عليه بعدئذ استحلال بعض المتطرفين –استنادًا إلى ذلك الفهم غير الصحيح- لمقاتلة المجتمعات الإسلامية باعتبارها “مجتمعات جاهلية”، واعتبروا ذلك جهادًا منهم في سبيل الله!
والحقيقة أن التكييف الصحيح لحال المسلمين في القرون المتأخرة أن إسلامهم كإسلام (الأعراب) الذين يقولون آمنَّا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم، بل كان عليهم أن يعترفوا بأنهم مجرد مسلمين (إسلام جوارح)، إسلام الظاهر المكتسب بالوراثة غالبًا، والذي لم يتمكن من القلوب والعقول بعد، وأن الطريق أمامه للوصول إلى هذا الحال يحتاج إلى عمل أخلاقي (تزكوي كبير) يستحقون بعده وصفهم بالمؤمنين الذين انتصروا على استعبادهم الداخلي لينصرهم الله على استعبادهم الخارجي.
والخلاصة أننا نحتاج إلى أن “نعمل على تطوير أنفسنا” كثيرا كي نحصل على العزة المنشودة، وهو أمر لن يكتمل سوى بأن نتحول من مسلمين (إسلام الأعراب) إلى مؤمنين (إيمان الصحابة)!
وهذا هو موضوع المقال المقبل!>>>
لمطالعة بقية أجزاء السلسلة يمكن للقارئ الكريم زيارة العناوين التالية:
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (1)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (2)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (3)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (4)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (5)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (6)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (7)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (8)
_________________________________________
* كاتب وباحث مصري