يشير المختصون بالمنطق مثل برتراند راسل إلى عبارة أن: (العلم وحده هو من يقدم المعرفة) كنموذج لتلك العبارات التي تنقض نفسها بنفسها، والشيء المفاجئ تماما أن…
(مقتطف من المقال)
ماذا تفعل إذا نزلت ببلد ما فقابلت أحد سكانها فقال لك: (أهل هذه البلدة كلهم يكذبون) فهل ستصدقه؟
إن المعضلة هنا أن النتيجة التي تريد أن تخرج بها تعتمد على مُدخل يستخدم النتيجة نفسها في إعطائك المعلومة أو الاستدلال على صحتها!!
فهل ستثق في النتيجة التي ستخرج بها ساعتها؟
ففي حالتنا هذه إن صدقت الرجل سيتعارض ذلك مع قوله أن أهل البلدة يكذبون (وهو من أهل البلدة فكيف ستصدقه)؟
وإن لم تصدقه لكنت بنيت عدم تصديقك إياه على المُعطى الذي أخبرك به بنفسه وهو أن أهل البلدة يكذبون (وهو من أهل البلدة لذلك صدقت أنه كاذب)!! فكيف تصدقه رغم أنه كاذب؟؟!!
إذا.. فكرة الوصول إلى (تفسير كل شيء بالعلم المادي) فكرة مهدومة ذاتيا لأنها تعتمد على مدخلات من نفس النتيجة التي يُراد الحصول عليها وهي جزء منها!!
يقول عالم الفيزياء الألماني الشهير ماكس بلانك أحد أشهر مؤسسي ميكانيكا الكم والفائز بجائزة نوبل 1918م: (العلم الطبيعي لا يستطيع حل اللغز المطلق للطبيعة، وذلك لأنه في التحليل الأخير نكون نحن أنفسنا جزء من الطبيعة، وبالتالي جزء من اللغز الذي نحاول حله).
فلا عجب إذا أن ماكس بلانك (وبقدر ألمعيته وعبقريته العلمية الفائز بجائزة نوبل الفيزياء 1918م) كان مؤمنا بالخالق عز وجل وله كتاب رائع سطر فيه الكثير من التقريرات الإيمانية وعلاقتها مع العلم).
ومن هنا نفسح المجال ل (جون لينكس) يحادثنا عن بعض أوجه قصور العلم، ليس في وصوله لفهم كل شيء فقط وإنما قصوره كذلك في فهم المعنويات والغايات.
العلم .. وحدود تفسيره للأشياء
العلم يفسر، وهذا يختزل سر قوة وجمال العلم عند كثير من الناس، فالعلم يجعلنا نفهم مالم نكن نفهمه من قبل، ويعطينا فهما عن الطبيعة، وقوة للتحكم فيها، لكن إلى أي حد يستطيع العلم أن يفسر لنا؟ هل هنالك أي حدود؟
البعض يعتقد أنه لا حدود لتفسيرات العلم، فعلى أقصى حد مادي يوجد من يعتقد أن العلم هو الطريق الوحيد للحقيقة ويمكنه على الأقل مبدئيا أن يفسر كل شيء، وهذه الرؤية تسمى العلماوية ويقدم (بيتر أتكنز) تعبيرا تقليديا لهذه الرؤية: (لا يوجد سبب لافتراض أن العلم لا يمكنه التعامل مع كل مناحي الوجود)!.
بعض الأشخاص –كأتكنز- والذين يعتبرون كل حديث عن الله والدين والتجربة الدينية أمرا خارج العلم وليس له حقيقة موضوعية، وفي حين يعترفون بالطبع أن كثيرا من الناس يفكرون بالله ولديهم عواطف وحتى تأثيرات مادية وأن بعضها قد يكون مفيدا، ولكن بالنسبة لهم التفكير في الله يماثل التفكير في بابا نويل في أعياد الميلاد والتنانين والغيلان والجنِّيات والعفاريت تحت الحديقة.
ويشير دوكينز في مقدمة كتابه (وهم الإله) إلى هذه النقطة بإهداء كتابه إلى دوغلاس آدمز باقتباس: (لا يكفي أن ترى الحديقة جميلة حتى يكون لديك الاعتقاد بأن هنالك جنيات تحتها؟).
حقيقة أنك قد تفكر بالجنِّيات وتفتن بها أو ترتعب منها لا يعني أنها موجودة، فالعلماء الذين تحدثنا عنهم يسعدهم ترك الناس يستمرون بالتفكير بالله والدين كما يشاؤون طالما أنهم لا يدعون أن الله له وجود موضوعي، أو أن الاعتقاد الديني يُشكل معرفة، بمعنى أن العلم والدين يمكن أن يتعايشا طالما أن الدين لا يدخل في نطاق العلم، لأن العلم وحده فقط يمكن أن يقول لنا ما هو الحقيقي موضوعيا، وفقط العلم هو من يقدم المعرفة، فالكلمة الأساسية أن العلم يتعامل مع الحقيقة والدين لا يتعامل معها.
بعض عناصر هذه الافتراضات والادعاءات مغرقة في الغرابة لدرجة تدفعنا للتعليق المباشر، انظر مثلا اقتباس دوغلاس آدمز الذي أورده دوكينز، فهو يكشف أوراق اللعبة ويُظهر أن دوكينز مُدان بارتكاب خطأ افتراض بدائل كاذبة عندما اقترح أنه إما أن الجنّيات موجودة أو لا شيء، قد تكون الجنيات أسفل الحديقة مجرد وهم، ولكن ماذا عن البستاني، بل ماذا عن مالك الحديقة؟ فاحتمال وجودهما لا يمكن ببساطة نفيه، حقيقة معظم الحدائق لهما مالك وبستاني معا.
ولننظر أيضا في ادعاء أن العلم وحده قادر على تقديم الحقيقة، فلو كان صحيحا ستكون إعلانا فوريا لإلغاء كثير من مناهج المدارس والجامعات، لأن تقييم الفلسفة والأدب والفن والموسيقى يقع خارج حدود العلم تماما.
كيف يمكن للعلم أن يخبرنا بأن قصيدة ما عبقرية أو مجرد قصيدة سيئة؟ من المؤكد أن هذا لن يتم بقياس طول الكلمات وتواترها في القصائد، وهل يستطيع العلم أن يخبرنا بأن لوحة ما هي قطعة مميزة فنيا أم مجرد خربشات لونية متداخلة، من المؤكد لن يستطيع بعمل تحليل كيميائي للألوان والقماش الذي رُسم عليه، وكذلك تعليم الأخلاق يقع خارج حدود العلم أيضا، فالعلم يقول لك إن أضفت مادة الستركنين إلى شراب أحدهم فستقتله، ولكن العلم لا يخبرك إن كان يصح أخلاقيا أن تدس الستركنين في شاي جدتك كي تستولي على ممتلكاتها؟
بكل الأحوال، يشير المختصون بالمنطق مثل برتراند راسل إلى عبارة أن: (العلم وحده هو من يقدم المعرفة) كنموذج لتلك العبارات التي تنقض نفسها بنفسها، والشيء المفاجئ تماما أن برتراند راسل نفسه يبدوا مُتقبلا لهذه الرؤية المحددة عندما كتب: (إن أي معرفة قابلة للتحصيل يجب أن تحصل عبر الطرق العلمية، وما لا يمكن للعلم أن يكتشفه لا يمكن للإنسان أن يعرفه).
ولكي ندرك التناقض الذاتي في طبيعة هذه العبارة يكفي أن نسأل ببساطة: كيف علم راسل هذا؟ لأن عبارته ذاتها ليست من عبارات العلم، فمعرفة أنها حقيقة إذا (ووفق عبارته نفسها) أمر مجهول، ومع هذا فراسل يعتقد أنها صحيحة… يتبع
المصدر: من كتاب/ أقوى براهين د. جون لينكس في تفنيد مغالطات منكري الدين