من أنت؟ .. ما هو الإنسان؟
هل هو مجرد الصورة التي تراها لنفسك حينما تنظر في المرآة؟
هل الإنسان هو مجموع ما فيك من شحم و لحم وعظم وأحشاء، ومجموع ما تتألف منه من عناصر ومركبات وما ينطوي فيك من غرائز ورغبات وما يعيش في عقلك من هواجس وخيالات؟
هل هو مجموع المنظور والمحسوس و الملموس فيك؟
أيها الإنسان .. لا أظن أن هذا هو أنت!
هذا هو ما يظهر لك ولي ولأجهزة التصوير والاستشعار المختلفة.. هذا هو مجرد الجانب المشهود منك.
أما حقيقتك، فهي في “العمق”.. في الجانب الذي يخفى عنا وعنك وعن جميع أجهزة الاستشعار وجميع وسائل الحساب المعروفة.. هي في الجانب الغيبي فيك.. فمن هذا الجانب يأتيك المدد لكل ما يظهر وما يتجلى في أفعالك.. و فيه تفسير الكتاب الجامع الذي المسمى بالإنسان.
الإنسان يتضمن غيبًا خافيًا اسمه “النفس”
ونفسك كانت موجودة قبل أن تتلبس بجسدك وقد استدعاها الله من ظهور أجداد أجدادك قبل أن يظهر لك أب وأم وقبل أن تأتي إلى رحم أمك من خلية ملقحة .
“وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ” (الأعراف:172).
لقد نطقت نفسك ساعتها بدون لسان وشهدت على نفسها بدون جسد وعرفت ربها بدون مخ..
وهذا هو أنت…
ومعنى ذلك.. أنه كان لك حضور غيبي وكانت لك شخصية غيبية كما أن لك شخصية مشهودة هي التي نراها الآن..
ولا عجب في ذلك، فأنت في الأحلام ترى بدون عينين، وتتكلم بدون لسان، وتسمع بدون أذن، وتمشي بدون أرجل، وأنت في الأحلام تسافر إلى بلاد لم تطأها قدمك ولم ترها بعينيك، فيخيل إليك أنك تعرفها من أمد بعيد.
وفي الأحلام تتحدث إليك الشياطين والملائكة.. وفي رؤى الأنبياء يكلم ربنا أنبياءه.. وفي رؤى الناس العاديين تتحدث إليهم نفوسهم الأمّارة بما تشتهي.. فكل الأحلام أحاديث.. كل نفس تتحدث على مستواها.. ولهذا سماها ربنا في القرآن “الأحاديث” ، يقول ربنا ليوسف الصديق: “وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ…” (يوسف:6)؛ فسمى جميع الأحلام أحاديث..
والنفس طرف مشترك في كل تلك الأحاديث، وهي تتحدث بدون لسان وترى بدون عين وتسمع بدون أذن.
وهي تسافر بدون مواصلات وتطير بدون أجنحة، فترى الأم ابنها في أمريكا مريضًا طريح الفراش.. دون أي مقدمات لهذا الخبر.. وذلك أيضًا علم بدون معلم ورؤية لغيب محجوب.. فيلزم من كل هذا أن نقول: إن الإنسان وجود غيبي وليس مجرد وجود مشهود وإن له نفسًا تستطيع أن ترى وتسمع وتتنقل بذاتها.. وذلك هو اللغز الذي اسمه “النفس”..
أما الروح التي هي نفخة الله في الطين لتقوم تلك النفس من العدم، فذلك غيب آخر
ومجيء النفس بأخلاق معينة وشخصية معينة بخيرها وشرها يدل على ثبوتية اختيار لتلك النفس في حال عدمها.. حينما كانت مجرد أحد الممكنات.. وذلك غيب ثالث أشد غموضً.
ولذلك يحاسب الله النفس على إجرامها وشرها لأنه لم يخلقها مجرمة ولم يجعلها شريرة، هي قد اختارت الشر وأضمرت الإجرام منذ الأزل. وقبل أن يعطيها الجسد لتفعل ولا تفعل.
هناك إذن ثلاثة مستويات من الوجود.. مستوى عالم الإمكان قبل الخلق، ثم الاستدعاء الرباني للوجود.. ثم ملابسة الجسد الذي نعرفه بمواصفاته، ثم النفخة التي جعلت منك ما أنت عليه، ولا نعرف من هذه المستويات إلا المستوى الجسدي.. وحتى هذا لا نعلم عنه إلا القليل.. أما النفس وحالها في عالم الإمكان.. والنفس حينما استدعاها ربها وألبسها حلية الجسد.. ثم النفخة الرحمانية وأسرارها.. فكل هذا غيب مطلسم بالنسبة لنا.
وذلك حظنا القليل التافه من المعرفة لأقرب شيء إلينا.. الإنسان..
وهذه نفسك..
فكيف تدّعي معرفة نفوس الآخرين؟
وكيف تدّعي الإحاطة بالكون؟
وكيف يأخذك الغرور بعلمك، فتنسى ربك الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك؟
فهلّا سجدت لله حياء واستغفرت..
الله
لا يكتمل إيمان المرء حتى يدرك أن كل ما يحدث له من خير وشر هو شفرة يقول بها الله شيئًا، وهمسة يهمس بها في أذنه.
وإن يكن الميكروب هو الذي يُمرض في الظاهر، فإن الله هو الذي أرسل الميكروب وكلفه بما فعل في الحقيقة، فلا شيء يحدث في الكون خلسة من وراء خالق الكون.. وطفيل الملاريا في فم البعوضة جاء مكلفًا.. والسقف الذي انهار على السكان فعل ذلك بميقات معلوم وكان من الممكن أن ينهار والبيت خال من سكانه ولكنه فعلها وهم نيام، فقتلهم في ميقات معلوم ولم يقتل الرضيع في حضن أمه لحكمة مراده.. واللبيب هو من يفهم الإشارة ويلتقط العبارة.
الكون
هذه الثلاثية كان لابد منها..
“الله والإنسان والكون”.. ليكون هناك معنى للدراما الكبرى التي تجري حولنا والتي نقع في محورها. فما كان ممكنًا أن يخلق الله الإنسان ويعطيه الخلافة على لا شيء. فما دام الإنسان هو أكرم ما خلق، وما دام قد أعطاه علم الأسماء كلها (أي علم كل شيء) وسخر له الملائكة والجن والشياطين والشمس والقمر والنجوم، فكان لابد أن تكون هناك مملكة لهذا الملك.. أرض يسكنها وكون يمرح فيه بعقله وبيئة يسخرها ويستغلها بعقله.. وممالك نبات وحيوان يسود عليها ويعيش على ثمراتها وطيباتها…
وطبيعي أن يكون هذا الملك العظيم هو محل الامتحان والابتلاء.. على هذا الإنعام.. ومن قبل ذلك كان التدريب الأول في روضة الأطفال حينما أنزله ربه في جنة وارفة وقال له: “وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ” (البقرة:35).. كان هذا هو الدرس الأول في الطاعة والمعصية، وكان الله يعلم أن آدم اختار الحرية والتمرد .. وأنه سوف يأكل وسوف يُطيع شيطانه .. وكان ضمن الدرس أن يتحمل المسئولية ويدفع الثمن، فيطرد من جنته ومعه حواء إلى أرض الابتلاء.
كان ذلك الدرس الأول رحمة وتنبيهًا إلى عواقب النسيان والغفلة والخضوع للهوى، وقد أراد به وبنسله أن يذكروا هذا الدرس.. لأن الخطأ سوف يتكرر والعقاب سوف يتكرر في مسلسل التاريخ كله منذ بدأ أول مرة ربما من مليون سنة أو أكثر إلى ما شاء الله من دهور وأجيال ربما نحن الآن في آخرها.
لنشهد ألوانًا جهنمية من الشرور والمذابح والمحارق والحروب والمقابر الجماعية لألوف يُقتلون وذنبهم الوحيد أنهم يقولون ربنا الله.
ونشهد في الجانب الآخر ارتقاء مذهلًا لذلك الإنسان بمواهبه وقدراته ليقتحم الفضاء، ويمشي على القمر، ويفلق الذرة، ويطير في صواريخ، ويغوص في غواصات ويبني المطارات الأرضية والمحطات المدارية المعلقة في السماء.. و المدن المستقبلية السابحة في الفضاء..
والامتحان مستمر بل هو الآن أصعب وأشق وأخطر مما كان أيام الأكل من الشجرة في روضة الأطفال.. والنتائج النهائية تقترب بقيامة شاملة يطوي فيها ربنا السماوات كطي السجل للكتاب.. وتكون الأرضون كلها في قبضته…
كان لابد إذن من تلك الثلاثية.. الله والإنسان والكون.. ليتم الامتحان ثم ليصنف الناس وفق منازلهم ودرجاتهم في عالم بلا موت.. نعيمًا بلا نهاية.. أو شقاء بلا نهاية.
وما أحسب أن هناك فلسفة أو مذهبًا أو نظرية استطاعت أن تقدم رؤية متكاملة ومعنى لحياتنا بمثل تلك الرؤية الدينية.
وبدون الدين وبدون الله.. لا معنى لأي شيء.
أما العلم، فإنه لا يرى أبعد من حواسه وأدوات استشعاره، ولا يستطيع أن يفهم لأبعد من حساباته.. وبالنسبة للعلم المادي.. الله فكرة غير مطروحة.. لأن العلم المادي لا يملك ميزانًا أو منظارًا يستطيع أن يرى به الله جهرة أو يعرف وزنه أو مقداره.. فهو إذن غير مطروح بالنسبة للعلم ولا لفلاسفة ما وراء الطبيعة في شطحات من الظن و التخمين و تصورات لا تتفق بقدر ما تختلف ويكذب الواحد منها الآخر ولا تصل إلى شيء..
و إنسان العصر الذي يعيش في دول أوروبا وأمريكا بدون إله.. يعيش حياة رخاء ووفرة ولذة وقوة.. لكنها حياة أقرب إلى الانتحار.. ذلك لأن الخواء يملأها.. و اللا معنى في صميمها.
و لو سألوني.. لماذا آمنت.. نريد منك جوابًا في كلمات.. لقلت في يقين و بلا تردد.. لأنه بدون الله لا معنى لي ولا لأي شيء.
________________________________________________
المصدر: بتصرف بسيط عن كتاب/ تأملات في دنيا الله، د. مصطفى محمود