من بين الشبهات التي يثيرها المتشككون قسم كبير يتعلق بحياة النبي صلى الله عليه وسلم.. زيجاته.. معجزاته.. بعض آرائه الحياتية في عدد من المسائل التي عُرضت عليه.. السنة الشريفة.. وغير ذلك.. لذا كان من الضروري أن نفرد لتلك النوعية من الشبهات مساحة خاصة لتفنيدها والرد عليها…
من تلك الشبهات ما يدعيه بعض المغرضين من أنه لا يوجد حديث يتصل سنده إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- زاعمين أن أقصى اتصال ينقطع ويتوقف عند نهاية القرن الأول الهجري.
ويستدلون على ذلك بأن هذا العصر كان عصر الصحابة -رضي الله عنهم- الذين شهدوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسمعوا أقواله، أما التابعون ومن جاء بعدهم فإنهم لم يشهدوه صلى الله عليه وسلم.
ومعنى ذلك أن السنة بحسب زعمهم تعد اختراعا من اختراعات المسلمين المتأخرين، وأرادوا من ذلك أن يثبتوا أحكاما فنسبوها للرسول صلى الله عليه وسلم.
رامين من وراء ذلك إلى التشويش على المسلمين، والتشكيك في السنة كلها.
وجها إبطال الشبهة:
1) لقد لاقت السنة من العناية والرعاية في عهد الصحابة الكرام ما لا يتصوره عقل، وقد تكفلوا بحفظها في حياته – صلى الله عليه وسلم – وبعد وفاته إلى أن أخذها عنهم التابعون.
2) إن فساد هذه الشبهة واضح عقلا ونقلا؛ إذ إن التابعين قد احتاطوا أيما احتياط في العناية بالسنة، ابتداء من الحفظ، ومرورا بالمذاكرة والحكم على الرجال، وانتهاء بالتدوين في المسانيد والصحاح، ولا شك أنه لا غنى لأي علم من العلوم عن الرواية، فهل كانت السنة بدعا في ذلك؟
لذا نقول في الرد على شبهة انقاطع أسانيد السنة النبوية
أولا: لقد نالت السنة من الرعاية والاهتمام ما حير أعداء الإسلام حتى قال بعضهم: ليفتخر المسلمون بعلم حديثهم ما شاءوا، وقد اعتنى الصحابة – رضي الله عنهم – بالأحاديث النبوية عناية فائقة، فحفظوها بلفظها كما فهموها، وعرفوا مغازيها ومراميها.
ثانيا: لقد حرص الصحابة – رضي الله عنهم – على التعلم من النبي – صلى الله عليه وسلم – وسماع حديثه، وفي سبيل ذلك فارقوا أهليهم، وغادروا أوطانهم، وأقاموا عنده ثم عادوا بعد ذلك إلى أهليهم وذويهم يعلمونهم ما تعلموه، ويفقهونهم بما فقهوه.
ثالثا: حرص الصحابة على مذاكرة ما يسمعونه من حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يكن يمنعهم الحياء من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من مراجعته في كل شاردة وواردة، وبعد موته – صلى الله عليه وسلم – لم ينحرفوا – رضي الله عنهم – عن شيء فارقهم عليه، فقد حفظوا سننه وعملوا بها، واحتاطوا في روايتها عنه – صلى الله عليه وسلم – خشية الوقوع في الخطأ، وخوفا من أن يتسرب إلى السنة المطهرة الكذب والتحريف.
رابعا: لقد اشتهر عن الصحابة – رضي الله عنهم – التشدد في الحرص على أداء الحديث كما سمعوه من الرسول – صلى الله عليه وسلم – حتى إن بعضهم ما كان يرضى أن يبدل حرفا مكان حرف أو كلمة مكان كلمة أو يقدم كلمة على أخرى وردت في الحديث قبلها.
خامسا: وقد كان بعض الصحابة يسافر إلى البلاد البعيدة، ويقطع الفيافي في سبيل التثبت من حديث عنده إذا علم أن غيره سمعه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فرحل بعضهم لتوثيق حديث نبيهم والمحافظة عليه، تمهيدا لجمعه بعد ذلك وتدوينه.
سادسا: لقد احتاط الصحابة للسنة، وتكفلوا بنقلها إلى التابعين، ويخطئ من يدعي أن بعض السنن فاتت الصحابة جميعا بعد أن رأينا مدى عنايتهم بذلك، وحرصهم عليها.
سابعا: لقد جاء عصر التابعين وشهد عناية فائقة بالسنة النبوية؛ فكانوا يحفظون الحديث كما يحفظون القرآن، فقد جاء عن قتادة أنه “كان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل حتى يحفظه” هذا مع قوة حفظه، وذكروا أن صحيفة جابر على كبرها قرئت عليه مرة واحدة – وكان أعمى – فحفظها بحروفها، حتى قرأ مرة سورة البقرة فلم يخطئ منها حرفا، ثم قال: “لأنا لصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة”.
ثامنا: أما أتباع التابعين، فلم يكن فيهم راو مكثر إلا كان عنده كتب بمسموعاته يراجعها ويتعهدها، ويتحفظ حديثه منها، ومنهم من كان لا يحدث إلا من كتابه، أما من جاء بعدهم، فكان المتثبتون منهم لا يكادون يسمعون من الرجل إلا من أصل كتابه، فقد كان عبد الرزاق الصنعاني ثقة حافظا، ومع ذلك لم يسمع منه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين إلا من أصل كتابه.
تاسعا: لقد ظهر علم الجرح والتعديل، وكان له علماؤه البارعون فيه، وكان هؤلاء العلماء لا يوثقون الرجل لظهور صلاحه في دينه فقط، بل كان معظم اعتمادهم على حاله في حديثه، فيجرحون الرجل لأنه يخطئ ويغلط، وباضطرابه في حديثه، وبمخالفته الثقات، وبتفرده، إلى غير ذلك من أسباب التجريح.
عاشرا: وقد وجد في كل مدينة من يهتم بجمع الحديث والتصنيف في السنة، وتبع التصنيف في السنة أو تعاصر معه التأليف في الرواة “ناقلي الحديث” من حيث بيان من روى عنهم، ومن رووا عنه، وتاريخ وفاة كل منهم وولادته، وبيان موطن كل منهم، ومعرفة أسمائهم، وكناهم، وألقابهم، وأنسابهم، وبيان العدول منهم والمجروحين.
حادي عشر: لقد تميز موثقو الحديث بأنهم من الفقهاء بالسنة والآثار، ومعرفتهم الواسعة بالرواة، كما كانوا على درجة كبيرة من الصلاح، والتقوى، والورع، والزهد، وطهارة الخلق، وسخاء النفس، أصحاب عقل رشيد، ومنطق حسن، وبراعة في الفهم، وهذا أعانهم على اكتشاف العلل الموغلة في الخفاء من الأحاديث.
ثاني عشر: وبعد ذلك كله ظهرت المسانيد والصحاح، وبهذا يكون تدوين الحديث قد مر بمراحل منظمة، حتى انتهى إلينا في كتب الصحاح والمسانيد، مما يبطل هذه الدعوى القائلة بانقطاع الأسانيد بين الرواة والنبي – صلى الله عليه وسلم – إذ لا تستقيم مع العقل السليم والفكر القويم.
وليعلم كل مثقف أنه لا بديل لعلم من العلوم عن النقل والرواية، فهل كان الدين الإسلامي بدعا من الحوادث حتى لا تنقل أحكامه وأخباره بهذا الطريق؟!
المصدر: بتصرف عن موسوعة بيان الإسلام