من البراهين على وحدانية الله وصدق رسوله وحقيقة ما جاء به: أن الشريعة كلَّها محكمةٌ في غاية الحسن والانتظام، متصادقة أخبارها، متفقة حقائقها، متعادلة أحكامها؛ لا يمكن البَشَرَ أن يقترحوا مثلها في الحسنِ، وموافقتِها لكل زمان ومكان، ومجاراتِها لجميع الأحوال، وجريانِها على الهدى والرشد والسدادِ والصلاح، لا تناقضَ فيها ولا اختلاف، ولا عبث ولا نقص ولا اختلال.
وكلما أمعن فيها العالِمُ البصيرُ عَلِم أنها أصدقُ الأخبار وأنفعها للقلوب، وأنها أحسنُ الأحكامِ وأصلحها في عباداتها ومعاملاتها، وتفصيلها للحقوق الخاصة والعامة، قال تعالى: “أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كثيرًا” (النساء:82).
فنبّه الله أولي الألباب والعقولِ على هذا البرهانِ العظيم، الذي هو من أعظم البراهين وأوضحها وأجلاها على أنه من عنده، وأنه حقٌّ كله، وأن ما ناقضه فهو الباطل، قال تعالى: “وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِيَ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ” (سبأ:6).
هذا هو الدين وهذه هي الشريعة
أما جاء هذا الدين بكل صدقٍ وصدَّق الصادقين؟ أما زجر عن الكذب وأبعد الكاذبين؟
أما حثَّ على العدل الكامل في حقوق الله وحقوق العباد؟ أما نهى عن الظلم والجور والشرور كلها والفساد؟
أما تأسس على الإيمان والإخلاص والتوحيد؟ ونهى عما ينافي ذلك من الشرك والتنديد؟
أما أمر ببرِّ الوالدين وصلة الأقارب، والإحسان إلى الجيران والمساكين، والإحسان إلى عموم الخلق؛ حتى البهائم العجم، وأخبر أنه يحب المحسنين؟
أما أمر بوفاء العهود والعقود والوعد والأيمان؟ ونهى عن الغدر والنكث والعدوان؟
أما حث على فعل الأسباب النافعة في الدنيا والدين؟ وأمرنا ألا نعتمدَ عليها بل نعتمدَ على مسبِّبها ونرجوَ فضل رب العالمين؟
أما أحل لنا جميعَ الطيبات وحرَّم علينا كلَّ خبيث؟ وحثنا على كل أمر نافع وحذرنا عن المضار؟
أما أمر بالصبر على المكاره والشكر عند المحابِّ والمسار؟
أما نهانا عن الهلع والجزع والجبن والخور والأخلاق الرذيلة؟ أما حثنا على القوة والشجاعة والعفة وجميع الأخلاق الجميلة؟
أما أمر بكل معروف شرعاً وعقلاً وفطرةً؟ ونهانا عن كل منكر شرعاً وعقلاً وفطرةً؟
فما أمر بشيء إلا رآه أهل العقول السليمة أحسنَ الأمورِ وأعدلَها، ولا نهى عن شيء إلا عن أقبحِ الخصال وأرذلِها.
وضَّح العقائدَ الصحيحةَ النافعةَ التي لا تصلح القلوب إلا بها، وأوجبها وجعلها أساساً تنبني عليه الأقوالُ والأفعالُ، وأمورُ الدين والدنيا، وجاء بالأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة التي تُصْلِح الأفرادَ والجماعات، وتستقيم بها العباداتُ والمعاملات.
فأيُّ خيرٍ وهدى وصلاح عاجل وآجل لم يبينه ويدعُ إليه؟ وأيُّ شرٍّ وفساد وضرر عاجل وآجل لم يحذِّر عن طرقه ومسالكه؟
وأيُّ أصلٍ من أصوله، وقاعدةٍ من قواعده، وخبرٍ من أخباره، وحكمٍ من أحكامه ناقضته العلومُ الصحيحة أو خالفته العقولُ والنظم المستقيمة؟
بل قامت البراهينُ التي لا تنقض؛ على أن كل شيء أُسِّس على غيره فهو ضرر وخراب، وكل بناء بني على غير تعاليمه وأحكامه فآخره الانهيارُ والتباب، وكلُّ نظام استمد من غيره فعواقبه وخيمة.
لأن الذي شرعه عالمُ الغيب والشهادة العزيز الحكيم، الذي أحاط بكل شيء علماً، ووسع كل شيء رحمة وبراً، وتكفّل لمن قام به واستقام عليه بالسعادة والفلاح، وضمن لمن تعبّد به ودان لله به الثواب والنجاح.
فهو أكبرُ البراهينِ على عظمة الله ووحدانيته وسلطانه، وأعظمُ الآيات الدالة على حكمته وحمده وجوده وامتنانه، فهو الهدى والرحمة والشفاء والنور، وهو الرشاد والصلاح لكلِّ الأمور: “الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطِّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (الأعراف:157)، “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” (النحل:90)، “وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِيَ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزُ الْحَمِيدُ” (سبأ:6)، “وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً” (الأنعام: 115).
فلهذا القرآنِ وهذه الشريعة: أكملُ الصفات وأجلُّ النعوت، ومَخْبَرُها ـ في جميع مواردها ومصادرها ـ يفسِّر هذه الأوصافَ الجليلةَ التي لا سعادة للبشر إلا بعلمها وسلوكها والاهتداء بأنوارِها، والتحقق بحقائقها وأسرارِها.
المصدر: بتصرف يسير عن كتاب (البراهين العقلية على وحدانية الرب ووجوه كماله 57 – 61 للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي)..