فكرة الحياد الإلهي ساقطةً، لأجل ما عُلم عقلاً بأن الإله الخالق من صفاته الحكمة وتنزيهه عن العبث، فيكون في زرعه سبحانه لغريزة التديّن دون إشباعها وإرسال الرسالة، عبثٌ يتنزّه عنه الباري سبحانه وتعالى، وإرسال الرسالة في ذاته هو تدخُّل في الكون ومناقضٌ للحياد المزعوم، وهذا أوّلُ الغيث…
(مقتطف من المقال)
أبو عبد الرحمن الإدريسي
الحياد الإلهي.. كثيرٌ من المخالفين قد تنازعوا حول هذه المسألة، وتضاربت الآراء والفلسفات حولها؛ فتاه البعضُ عن الصراط المستقيم، وتأثّر من تأثر بالنهج غير القويم. وهو خلافٌ ما بين الدين، واللادينية الربوبية.
وأهمية الموضوع تتجلى في عدم تناوله في مسالك العقيدة إلا ضمنا وعرضاً، ولم يتمَّ التأليف فيه إفراداً فيما نعلم، وفي تقريره نفضٌ للغبار عمّا اعترى الناس في هذا الباب، وردّاً على شبهاتٍ صدّعَ بها أهل الباطل الرؤوس، وقد حسبنا أن الحق مكتفٍ بظهوره لا يُحتاج إلى من يخرجه.
تحرير محل النزاع في قضية الحياد الإلهي…
ينبغي أولا قبل الشروع في نقض هذه الفكرة، أن نوضحها في أذهان القراء الكرام، وأن نسعى إلى تحرير محلّ النزاع، فالخلاف المحصور بين اللادينية الربوبية والدين، هو في إنزال الشريعة والدين للبشرية من عدمه، وهو ما يعنيه أصحابه “الحياد الإلهي”.
أما اللادينية الربوبية فهي تقر بعناية الله للخلق، وتدبير الكون وغير ذلك بدرجاتٍ متفاوتةٍ، لكن اللادينية في مجتمعاتنا العربية لم ترتكز في عمومها على لادينية الغرب، بل تناولوا فكرة “الحياد الإلهي” وعدم تدخّل الإله في تدبير الكون والخلق، حتى أنكروه جملةً وخالفوا أئمتهم في ذلك.
ومردُّ ذلك إلى الجهل بفلسفة اللادينية كما سطّرها منظروها وفلاسفتها. وبالتالي سوف نركز على ما يقوله بنوا جلدتنا، ثم نقوم بنقض هذه الشبهة؛ لأن الأولى جواب ما انتشر لا ما سُطّر في بطون الكتب. وفي ذلك نقول وبالله التوفيق:
غريزة التديّن تنقض فكرة الحياد الإلهي:
وذلك بإجماع عامّة علماء النفس والاجتماع، والملحوظ في النّفس الإنسانية؛ مركوزٌ فيها، لأن الإنسان كائنٌ رامزٌ، يبحث في غائيّة الوجود وعلّة وجوده، وعن السلوى في الكتب الدينيّة، وأول دليلٍ على ذلك: النسبة العالية للمتديّنين في العالم، فبحسب الإحصائية العالمية لسنة 2013 م، تبين أن 84 % من ساكنة العالم ينتمون لمجموعات دينية.
علماً بأن الإحصائية ارتكزت على الأديان العالمية المشهورة، وأغفلت الأديان الصغيرة الإفريقية الآسيوية وغيرها، كما المواليد والمرضى العقليين وغيرهم !
ومن جهةٍ ثانية: ما توافقت عليه العلوم الإنسانية المتخصّصة بدراسة الأديان، حيث أجمعوا على احتياج الإنسان للدين، وتُخبرنا موسوعة لاروس الفرنسية Encyclopédie Larousse عنها وتقول: إنَّ الغريزة الدينية مشتركةٌ بين كلّ الأجناس البشرية، حتى أشدِّها همجيةً، وأقربها إلى الحياة الحيوانية.. وإن الاهتمام بالمعنى الإلهي، وبما فوق الطبيعة، هو إحدى النَّزعات العالَمية الخالدة، وهذه الغريزة الدينية لا تختفي، بل لا تضعف ولا تذبُل إلا في فترات الإسراف في الحضارة، وعندَ عددٍ قليلٍ جدّاً من الأفراد.
ويُقررها الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون: لقد وُجدت وتوجد جماعاتٌ إنسانية بدون علومٍ، وفنونٍ، وفلسفاتٍ، ولكنَّه لم توجد قطّ جماعةٌ بغير ديانةٍ.
فتكون فكرة الحياد الإلهي ساقطةً، لأجل ما عُلم عقلاً بأن الإله الخالق من صفاته الحكمة وتنزيهه عن العبث، فيكون في زرعه سبحانه لغريزة التديّن دون إشباعها وإرسال الرسالة، عبثٌ يتنزّه عنه الباري سبحانه وتعالى، وإرسال الرسالة في ذاته هو تدخُّل في الكون ومناقضٌ للحياد المزعوم، وهذا أوّلُ الغيث.
دعوات الإنسان للخالق تناقض مفهوم الحياد الإلهي:
وهو دليلٌ قريبٌ من الدليل السابق، حيث أن غالبيّة أهل الأرض يدعون الله لتحقيق مآربهم، في رخائهم ومحنهم، فهذا مريض يريد الشفاء، وذاك فقير يريد الغنى، وتلك مكروبةٌ تسأل الفرج، وأولئك طلبةٌ يريدون النجاح، وذاك يريد زوجةً والآخر يريد الطلاق في سلامٍ … وهكذا دواليك. فإن كان الحياد الإلهي معمولاً به، لكان من آليات النفس الإنسانية عدم سؤال الخالق والتوجه إليه بالدعوات. وإلا فما الحكمة من خلق الخلق بهذا النزوع وتلك الآليات، والله عزّ وجل محايدٌ لا يتدخل في مقادير البشر –كما يزعم الربوبيّون-؟!
العناية الربانية والقضاء والقدر ينقضان مفهوم الحياد:
ومفهوم العناية الربانية أمرٌ مشاهدٌ في حياة الناس، من أناسٍ خرجوا سالمين من حوادث ومصائب تكونُ علميّاً مميتةً ومهلكة، يضاف إلى ذلك القضاء والقدر، فكم من رزقٍ ساقه الله لأناس كفاراً كانوا أو مؤمنين لم يتوقعوه ولم يحتسبوه، وتلك طائرةٌ سقطت غابَ عنها مسافرٌ لتأخره في النوم أو لتأخره عن ميعاد الإقلاع، وطالبٌ مشتاقٌ للالتحاق بكليّة الفنون ففشل في الامتحان، فدخل جامعةً أخرى في تخصّصٍ آخر فنبغ فيه، وارتقى في المناصب المرموقة، حتى لو خيّر بأن يرجع بالزمن لاختار ما كان لا ما سيكون.. وأمثالها مما يحكى من الناس.
الكون ناقضٌ لمفهوم الحياد الإلهي:
وذلك لما يتضمّنه من قوانين محكمة، وتصريفٍ للخيرات وتفضيلٍ للثروات لبعضٍ دون بعض، وكوارث طبيعية تضرب مناطق دون أخرى، أو أعاصير تتوقع مدنٌ أن تضرّ بها، فتهدأ أو تغير مسارها في آخر لحظةٍ، وغيرها مما يُحكى ويُرى. ومن ذلك ما يقوله جون فوستر: إذا أقررنا بوجود قوانين الطبيعة، فإن هذا الانتظام يمكن تفسيره ببساطة وعلى أكمل وجه، بوجود إله قادر حكيم.
ومفهومُ الحكمة مناقضٌ لمسألة الحياد الإلهي كما أسلفنا.
ويقول الجيولوجي الفرنسي بيير تيرميي: العلوم ككل تجعلنا ندرك بأن الله موجود، وأن الروح موجودة، وأن الإيمان الأخلاقي موجود، وأننا خُلقنا لأجل مصيرٍ فوق بشري.
العقل لا يقرُّ بفكرة الحياد الإلهي:
ذلك أن العقل مقرٌّ بكمال الله تعالى وحكمته، وتنزّهه عن العبث، وبذلك استحالة خلق الكون والبشر وتركه هملاً، وهم محتاجون إليه سبحانه، ومفطورون عليه، وكمال حكمته تقتضي بأن لا يخلق عباده ويتركهم هَمَلاً، لا يعرّفهم بنفسه، ولا أمرٍ لهم جامع، ولا نهي لهم مانع، يقول الله عز وجل: “أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ. فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ” (المؤمنون: 115، 116). فتكون اللادينية قد نفت الحكمة عن الخالق بإقرارها مبدأ الحياد.
وكمال ألوهيته أن يكون مطاعاً، وأن يكون مطاعاً معناه أن يكون له أوامر، ومعرفة ذلك لا يكون إلا بالرسل، وإرسال الرسل مناقضٌ للحياد المزعوم.
وكمال ربوبيته سبحانه وتعالى تقتضي أن يقيم الحجة على الخلق لأن الجزاء لا يكون إلا بعد الإنذار، وليس كما يزعم اللاديينيون بأن العذاب على الظالم دون إنذار في الآخرة. وكمال ملكه وسلطانه، بتدبير شؤون الكون وإنزال الشريعة وتقدير أرزاق الخليقة وأشباهها.
فيكون معتقد الحياد الإلهي ناسبا إلى الخالق صفات نقص، وذلك يتجلى في:
-إهماله لعباده وعدم إنزاله لدين يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقد عُلم أن الباطل كثير ذو وجوه عديدة، فهذا يهوي ساجدا لحيوان، وذاك يعبد بشراً، وآخر يدعوا صنماً، والرابع ملحد، والخامس يعبد شيطاناً، والسادس يعبد كوكبا، إلى آخره..
فكان الأولى إذْ خلقهم ألا يدعهم هَمَلاً دون استدلال، وقد علم أنهم ليسوا على قدرٍ واحد في العلم والفهم، فلم يُنزل ديناً كي يعرفنا بنفسه، وترك البشرية تتخبط وحدها تبحث عن الخالق، تعالى الله أن يكون كذلك.
-قد عُلم أن البشرية تشقى في إطار القوانين الوضعية، التي سببت التعاسة للناس حيث طغت العدمية والمادية على حياة البشر، فكثرت نسب الجريمة، من قتل واغتصاب غيرها، وطغت الآفات النفسية وهذا باعتراف علماء الاجتماع والنفس، فكان أن الله حسب معتقد الربوبيّة، ترك الناس تموج هذا الموج، فلا هو جبر الناس على عقلٍ واحد يُهتدى به لمنهج واحد يحقق للناس آمالهم، ولا تدخّل بإنزال دينٍ يحقق السعادة والرخاء للبشرية باحتكامهم إليه، وهو ظن سوء بالخالق يتنزّه عنه.
-أنه أودع في النفس محبة الدين بمعتقداته وروحانياته كمحبة العبادات والطقوس الدينية، فكان معتقد الحياد الإلهي المزعوم ينسب له الخطأ في ذلك، فلم ينزل ديناً ذو عبادات حتى يُرضي هذه الحاجة الروحيّة.
-أن الإنسان توّاقٌ إلى المعرفة، مهتمٌّ بكل حديث عن ما بعد الموت، يحب أن يَعلم مصيره بعده، وهل هو على الحق أم على الباطل مستحق لما سيأتي بعده أم غير مستحق؟ فإن لم يعلم ذلك عاش في قلقٍ دائم، وحلّ عليه الضنك من حيث لا يدري.
-أنه أودع في الإنسان مسألة التمحيص والاختيار، لأنه كائن متديّنٌ بطبعه، فترى الناس تُقبل على المباحثات العقدية والدينية أياًّ كانت مهنهم، يتحاورون بينهم سواءً في الجزئيات أو الكليات أو حتى في أديانٍ ومِلَل أخرى، فإن كان الإنسان ميّالاً للاختيار بين الأديان والأفكار، فلماذا جعل الله فيه هذه الصفة إن لم ينزل دينا؟
-قصور العقل عن معرفة أجوبة الأسئلة الوجودية التي تعتري الإنسان، وقد اتفق علماء الاجتماع على أن الإنسان كائن رامز يستحيل أن يعيش دون ترميز الظواهر حوله كما أسلفنا، فالعقل قاصرٌ عن معرفة ما يريده الله منا تفصيلا، وذلك كمعرفة غاية الخلق، وما بعد الموت ولماذا الموت، ومن هو هذا الخالق، وهل هناك بعث؟ وهل هناك جزاء وغيرها من الأسئلة الوجوديّة.
المصدر: بتصرف يسير عن موقع مركز دلائل