حالة من الذعر يعيشها الناس حول العالم هلعا من تزايد انتشار فيروس (كورونا).. وهو الفيروس الذي ظهر أولا في دولة الصين ثم انتقل منها إلى عدد من الدول الأخرى.. مع وجود مخاوف من انتشاره بصورة أوسع وأكبر، في ظل تحوله لوباء في دولة منشئه، وبسبب عدم وجود علاج له حتى الآن، وفي ظل تواتر التحذيرات والتنبيه على ضرورة أخذ إجراءات الأمن والسلامة بعين الاعتبار، والإشارة إلى ضرورة أخذ الحيطة والوقاية بشتى طرقها.. كان لزاما أن نبين المنهج الإسلامي الرفيع في التعامل مع الأمراض بشكل عام، ومع الأوبئة بشكل خاص..
إعداد/ فريق التحرير
إن عناية الإسلام بالصحة لم تكن أقلَّ من عنايته بالعلم؛ ذلك أن الإسلام كما قلنا مرارًا: يبني أحكامه على الواقع، والواقع أنه لا عِلم إلا بالصحة، ولا مال إلا بالصحة، ولا عمل إلا بالصحة، ولا جهاد إلا بالصحة، والصحة رأس مال الإنسان، وأساس خيره وهناءَته، ومن هنا عرَض القرآن الكريم للمرض، وكان له -في تشريعه الذي يعالج به القلوب- أعظم إيحاء وأوضح إشارة إلى اتخاذ وسائل الصحة البدنيَّة والوقاية الصحية.
اهتمَّ المنهج الإسلامي منذ بداية نزوله بتوعية المسلمين لكل ما فيه الخير لدينهم ودنياهم؛ فأمرهم بالعلم وحضَّ عليه، ورغَّبهم في استخدام هذا العلم في إصلاح كل جوانب الحياة.
ومن أهمِّ هذه المجالات التي أبدع فيها المنهج الإسلامي مجال الوقاية من الأمراض؛ فقد ظهر فيه بجلاء حرص الإسلام ليس فقط على الأمة الإسلامية ولكن على عموم الإنسانية؛ فإن الأمراض إذا انتشرت في مجتمع فإنها لا تخصُّ دِينًا دون دين، ولا تختار عنصرًا دون عنصر، ولكنها تؤثِّر سلبًا على حياة العموم من الناس.
وعليه فقد جاء الإسلام بمنهج معجز؛ فيه سلامة الجسد والنفس والمجتمع.. وكيف لا يكون معجزًا وقد جاء من عند رب العالمين؟!
ففي الوقت الذي كانت القذارة في كل شيء سمة مميزة لحياة الأوربيين -حتى اعْتُبِرَت الأوساخ التي تعلق بالجسم والملبس هي من البركة، ومن الأشياء التي تُعطي القوة للأبدان! وحتى وصل الأمر إلى أن الإنسان كان لا يغتسل في العام كله إلاَّ مرَّة أو مرتين- في هذا الوقت نزل المنهج الإسلامي في عمق الصحراء، وبعيدًا عن حياة المدن والحضارات العملاقة؛ يُرشد الناس إلى الطهارة ووجوب الغُسْل وإلى استحبابه.
فالغُسْل واجب عند الجنابة وعند الحيض، وغير ذلك، وهو مستحَبٌّ في العيدين والإحرام وغيرهما، واختلف العلماء في وجوبه أو استحبابه يوم الجمعة، والغالب أنه مستحَبٌّ؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَسِوَاكٌ، وَيَمَسُّ مِنَ الطِّيبِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ).
بل إنه حدَّد للمسلم فترة زمنية قصوى للفارق بين الغُسْلَين، فقال صلى الله عليه وسلم: (حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ).
والشائع والمعروف في عالم الطب أن المرض يسبق العلاج وأن الوقاية تسبق المرض ولهذا قالوا: (درهم وقاية خير من قنطار علاج).
والطب الوقائي في الإسلام يقوم على قواعد أساسية من التحصن من شأنها أن تكسب الجسم مناعة ذاتية تقيه غوائل العدوى والأمراض الوافدة وميكروباتها وفيروساتها المختلفة …
يقول ابن قيم الجوزية: (وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالغذاء لا يعدل عنه إلى الدواء.. وقالوا: قدر على دفعه بالأغذية والحمية لم يحاول دفعه بالأدوية.. وقالوا: ولا ينبغي للطبيب أن يولع بسقي الأدوية فإن الدواء إذا لم يجد في البدن داء يحلله أو وجد داء لا يوافقه أو وجد ما يوافقه فزادت كميته عليه أو كيفيته تشبث بالصحة وعبث بها) .
جاء في كتاب (مع الطب في القرآن): (الفرق كبير بين أن نترك الإنسان ليصاب بالمرض ثم نسعى لمعالجته وبين أن نقية من المرض أصلاً).
ولقد أدرك الحكماء القدامى هذا الفرق وكذلك الأمم الحديثة فأولوا الجوانب الوقائية الاهتمام الأول في كل التدابير الصحية.
وإنه ليأخذ الناظر في كتاب الله العجب العجاب حينما يجده قد أولى النواحي الوقائية الأهمية الكبرى وأرسى دعائم الطب الوقائي في الوقت الذي لم يهمل معه النواحي العلاجية ولكن لا عجب في ذلك فالقرآن ذكر رب العالمين أنزله على الناس ليأخذ بناصيتهم إلى الطريق القويم طريق الصحة والقوة والمجد..
لقد بين القرآن الكريم حينما نادى البشرية “وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ…” (البقرة:195)، بين لهم الطريق التي تؤدى بهم إلى الهلاك وحذرهم أشد التحذير منها وتوعد من يسلكها أشد الوعيد رحمة به وبمجتمعه كما بين لهم السبل التي تسمو بهم جسدياً ونفسياً نحو الصحة والسلامة كل ذلك في إطار علمي لم ولن يشهد التاريخ له مثيلاً .
ونستطيع أن نلخص منهج الإسلام في التعامل مع الأمراض و الأوبئة فيما يلي:
أولاً: إرجاع الأمر كله إلى الله تعالى مع الأخذ بجميع الأسباب المتاحة لدفع المرض، والأخذ بالحيطة والحذر والوقاية قبل الوقوع والإصابة، ثم الأخذ بجميع الأسباب المتاحة للعلاج والشفاء.
ثانياً: يبين الإسلام للناس بأن لكل داء دواء ولكل مرض شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله، يختلف ذلك حسب العصور والأزمان وتطور الأدوية والعلاج والوسائل الطبية، حيث يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم ينزل داءً، ـ أو لم يخلق داءً ـ إلاّ أنزل -أو خلق- له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله إلاّ السام، قالوا: يا رسول الله، وما السام؟ قال: الموت) (صححه الألباني في سلسلة الأحاديث رقم 1650)، وهذ الحديث الصحيح يعطي أملاً كبيراً لكل مريض حيث قضى بأنه لكل داء دواء، ولكل مرض شفاء، وبذلك لا يفقد المريض الأمل مهما كان مرضه خطيراً على عكس ما هو الحال اليوم حيث تصنف بعض الأمراض على أنه لا شفاء لها.
وقد كانت الإرشادات النبوية واضحة جليَّة في العلاج والوقاية؛ جاء فيها الأمر بالتداوي، وجاء فيها التحذير من العدوى، وجاء الأمر بعزْل المرضى عن الأصِحَّاء؛ (إذا سمِعتم بالطاعون بأرضٍ، فلا تدخلوها، وإذا وقَع بأرضٍ وأنتم فيها، فلا تَخرجوا منها).
ويُشير الحديث إلى وقت حضانة المرض المعروف في لسان الأطباء: (وفِرَّ من المجذوم كما تَفِر من الأسد)، وجاء فيها النهي عن قضاء الحاجة من بولٍ أو براز في الماء الذي يستعمله الناس في وضوئهم واغتسالهم، وسائر شؤونهم، وفي طريقهم الذي فيه يمشون، وفي ظلِّهم الذي به يستظِلون، وموارد مياههم التي عليها يجلسون، ومن ذلك شواطئ الترع والقنوات والأنهار؛ (اتَّقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل).
وأطلَق الرسول عليها الملاعن؛ لأنها تُسبب لعْن الناس لمن يَفعلها، وقد ثبَت طبيًّا أن هذا الصنيع مع قذارته وتقزُّز النفوس منه، يولِّد أمراضًا وبائيَّة
ثالثاً: يجب على المريض أن يسعى جاهداً للعلاج إن كان ذلك ممكناً، ويكون آثماً إذا تركه، وعليه كذلك أن يبذل كل جهده لعدم انتشار مرضه وتعديته إلى غيره، من خلال عدم الاختلاط، وعدم الخروج إلاّ للضرورة، وذلك لأن إيذاءه للآخر محرم وإضراره بالآخر ممنوع شرعاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) حديث حسن رواه ابن ماجة.
وأما غير المريض فيجب عليه ألا يقترب من المريض المصاب بمرض معد، ولكن بلطف ولباقة دون إيذاء لمشاعره، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد) رواه البخاري، وإذا كانت هناك وسائل لعدم نقل المرض إليه فينبغي الاستفادة منها، وبالتالي يكون تعامله مع المريض طبيعياً.
والإسلام يقصد من خلال ذلك أن يدفع الإنسان نحو الاطمئنان الداخلي من خلال إرجاع الأمر كله إلى الله تعالى، ونحو الأخذ بالأسباب التي هي سنة من سنن الله تعالى، وبذلك يجمع بين الخيرين.
وقد يظن ظان أن هناك منافاة بين قوله صلى الله عليه وسلم: “لا عدوى” وبين قوله صلى الله عليه وسلم: “وفرّ من المجذوم كما تفر من الأسد” والحقيقة أنه لا منافاة عند أهل العلم بين هذا وهذا، وكلاهما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: “لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول” وذلك نفي لما يعتقده أهل الجاهلية من أن الأمراض كالجرب تعدي بطبعها، وأن من خالط المريض أصابه ما أصاب المريض، وهذا باطل، بل ذلك بقدر الله ومشيئته، وقد يخالط الصحيح المريض المجذوم ولا يصيبه شيء كما هو واقع ومعروف؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الإبل الصحيحة يخالطها البعير الأجرب فتجرب كلها، قال له عليه الصلاة والسلام: فمن أعدى الأول، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: “فر من المجذوم فرارك من الأسد” وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: “لا يورد ممرض على مصح” فالجواب عن ذلك: أنه لا يجوز أن يعتقد العدوى، ولكن يشرع له أن يتعاطى الأسباب الواقية من وقوع الشر، وذلك بالبعد عمن أصيب بمرض يخشى انتقاله منه إلى الصحيح بإذن الله “كالجرب والجذام”؛ توقيًا لأسباب الشر وحذرًا من وساوس الشيطان الذي قد يملي عليه أن ما أصابه أو أصاب إبله هو بسبب العدوى. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز: 6/27).
نسأل الله تعالى أن يشفي كل مريض وأن يعافي كل مبتلى. آمين
_______________________________________________
المراجع:
** النسخة الإلكترونية لمجلة المجتمع الكويتية
** شبكة الألوكة الثقافية
** التربية الوقائية في الإسلام