ذكرنا في الجزء الأول أنه من أجل أن ندرك مدى تعقيد العمليات العقلية للإنسان وتميزها عن مختلف الكائنات الأخرى، واستحالة أن تكون ناتجاً مباشراً للتطور بحسب الرؤية الداروينية ، اخترنا أن تكون لنا وقفات مع أربعة من النشاطات العقلية للإنسان، تُظهر لنا أن ما يتمتع به العقل البشري من قدرات لا بد أن يكون وراءها إله حكيم خبير.. كانت وقفتنا الأولى مع قدرتي اللغة وحرية الإرادة.. لكنهما بالتأكيد ليستا كل القدرات..
الإدراك خارج الحس:
اعتدنا أن نتحدث عن الحواس الخمس، وهي الإبصار والسمع واللمس والتذوق والشم، ويستخدم المخ في هذه الإدراكات الحسية (وكذلك وظائف المخ الحركية) آليات كهربائية وكيميائية، ولكن هناك بعض النشاطات الإدراكية التي لا تستخدم هذه الحواس، وفي هذه النشاطات الإدراكية التي لا تستخدم هذه الحواس! وفي هذه النشاطات يخترق الإنسان حاجز الزمان والمكان، ومن ثم تعجز الآليات الكهروكيميائية عن تفسيرها، ولا يبقى تفسير إلا القول بتواصل العقل الإنساني مع الروح المدرك الذي لا يحده زمان ولا مكان، ومن ثم فهي براهين يقدمها الله تعالى على عالم الغيب ومن ثم على الألوهية، وتُقدم هذه البراهين حتى للملاحدة من البشر، ومن هذه الظواهر:
-
ظاهرة الرؤيا المسبقة (ظاهرة الشعور بالألفة):
إنها ظاهرة معروفة في علم النفس، بل لقد عشناها كلنا أو معظمنا، وتعني الرؤيا المسبقة أننا قد نمر في حياتنا بموقف ما، ونستشعر أننا قد عايشناه من قبل بملابساته وتفاصيله. وغالباً ما نشعر أننا قد سبق واطلعنا في أحد أحلامنا على ما سوف يحدث من تفاصيل.
وقد فسر الماديون هذا الأمر المعجز بأنه مجرد “توهُّم”، كما قال آخرون بأن أحد نصفي المخ يدرك الحدث قبل النصف الآخر، وعندما يدرك النصف المتأخر الموقف تشعر بالألفة، وقد ثبت خطأ هاتين الفرضيتين.
-
ظاهرة الرؤيا الصادقة:
في هذه الظاهرة، تتحقق على أرض الواقع رؤى رآها الشخص من قبل في أحلامه بتفاصيلها.
كيف اخترق العقل في ظاهرتي الرؤيا المسبقة والرؤيا الصادقة حاجز الزمان واطلع على غيب لم يحدث بعد؟!.
-
ظاهرة التواصل عن بُعد:
قد تشعر الأم بقلق شديد تجاه ابنها المسافر عبر البحار، ثم تعرف فيما بعد أن حادثاً قد أصابه في تلك اللحظة، وقد تُفكر في شخص ما وبعدها بلحظة تسمع رنين الهاتف وإذا به يتحدث إليك، هل لديك تفسير لمثل هذه الأحداث التي يخترق فيها العقل حاجز المكان؟
-
خبرات الذين اقتربوا من الموت:
أُجريت العديد من الدراسات على أشخاص أصيبوا بنوبات قلبية وأُعلنت وفاتهم إكلينيكياً، ولكنهم تماثلوا للشفاء وحكوا أموراً عجيبة، ذكر بعضهم أنهم فارقوا أجسادهم وأخذوا يطوفون فوقها ويشاهدون الأطباء والممرضات وهم يقفون حولهم ويقومون بعلاجهم، ثم إذا بهم يدخلون في أجسادهم مرة أخرى، وذكر بعضهم أنه شاهد نفقاً طويلا مظلماً وفي آخره دائرة من نور، وذكر أحدهم أنه رأى حذاء لونه أحمر ملقي فوق سطح المستشفى، وقد ثبت صحة ذلك!.
لاشك أن ظواهر الإدراك خارج الحس التي يتم فيها خرق حاجزي الزمان والمكان تضع العلم المادي في موقف حرج، وتدفعنا لأن نستدعي لها تفسيرات غيبية غير مادية، بل وتجعلنا ننسب على العقل الإنساني نشاطات تتجاوز كثيراً ما اعتدنا عليه، وتتجاوز قدرة المخ المادي على القيام بها.
المشاعر الروحية والتسامي:
يتمسك الماديون بأن الديانات ابتداع إنساني من أجل تحقيق فوائد مادية ومعرفية وشعورية، أهمها الشعور بالأمان لوجود قوة غيبية تدعمنا عند الضرورة، كما يعتبر الماديون أن ما نستشعره من طمأنينة نفسية وشعور بالتسامي والروحانية أوهام نفسية أو هلاوس مسئول عنها نشاط غير سوي لمراكزنا المخية.
وقد أصيب الماديون بخيبة أمل بعدما توصل العلم باستخدام أحدث تقنيات التصوير الإشعاعي للمخ أن ما يستشعره المتدينون من طمأنينة ومشاعر روحية ومن وجود غيبي يستوي على عرشه إله حق ليست هلاوس وتوهمات، إنما هي إدراكات لوظائف مخية سوية. كما أثبتت تلك الدراسات أن “الوجود الغيبي” الذي يستشعره المتدينون أثناء عباداتهم لا يقل واقعية عن “الوجود المادي” الذي نعيش فيه! فكلاهما يتم استشعاره بآليات المخ الإدراكية. ومن ثم ينبغي أن يتوقف الماديون عن تقسيم العالم إلى “وجود مادي حقيقي” و “وجود غيبي غير مادي غير حقيقي”، فكلاهما من وجهة نظر المخ وجود حقيقي!!.
المخ/ العقل والعبادات:
يطرح المتشككون تساؤلات حول جدوى العبادات في الدين، ويقولون: ألا يكفي أن تكون هناك عقيدة في الإله نؤمن بها، ثم نلتزم بمكارم الأخلاق وحسن معاملة الآخرين وكفى مثل كثير من ديانات الشرق الأقصى؟ كنت أجيب هؤلاء قائلاً:
أولا: العبادات دليل على طاعة المؤمن لأوامر الله تعالى، حتى وإن لم نعرف لها تفسيراً عقلانياً، مثل عدد الركعات في كل صلاة، ولماذا يكون بعضها سراً وبعضها جهراً، ومن ثم فهي دليل على صدق العبودية لله تعالى.
ثانياً: تحقق العبادات حسن الأخلاق والمعاملة التي يطالب بها هؤلاء المتشككون، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصوم ترقية للنفس وإشعار بمعاناة الفقراء، والزكاة تكافل اجتماعي.
وهاتان الفائدتان من أهم مقاصد الشريعة.
ثم أثبت العلم الحديث أن للعبادات وظائف عقلية في منتهى الأهمية منها:
ثالثاً: تثير العبادات مراكز الشعور في المخ، فتتحول العقيدة من معلومات نظرية وطقوس إلى تجارب شعورية ذاتية، وهذه من أهم وظائف العبادات.
رابعاً: للعقل رغبة فطرية في تجسيد معتقداتنا وأفكارنا في صورة حسية، فجاءت العبادات إشباعاً لهذه الرغبة؛ فالعبودية نجسدها في السجود، والطاعة نجسدها في الصوم، وهكذا.
خامساً: تؤدي العبادات إلى إغلاق مراكز الشعور بالذات والشعور بالمحيط في المخ، فيستشعر الإنسان قدراً كبيراً من التسامي، قد يصل إلى التواصل الحقيقي مع الوجود الغيبي.
كما أثبتت الأبحاث التي قام بها د.أندرو نبيوبرج (مدير مركز الدراسات الروحية بجامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة) أن العبادات (بما فيها من صلاة وذكر وقراءة القرآن) تشتمل على الكثير من الممارسات التي حددها العلماء المتخصصون لتحسين صحتنا الجسدية والعقلية والنفسية، ولتحقيق السكينة والسمو الروحي، كذلك فإن التوجه إلى الله الرحمن الرحيم يؤدي إلى المزيد من السكينة والسمو، أما العبادة التي تركز على الخوف من الله ذي البطش الشديد، وكذلك التطرف الديني، فيؤديان على تلف الكثير من الدوائر العصبية المخية، ومن ثم على الشقاء النفسي والأمراض العضوية والشيخوخة المبكرة.
إن إدراك المؤمن لهذه الفوائد الجمة للعبادات تجعله فخوراً بالحرص على ممارسة طقوسه الدينية.
العقل والكمبيوتر:
في محاولة أخيرة لإنقاذ اعتباراتهم المادية، يدعي الملاحدة أن أداء الكمبيوتر يشبه العقل البشري، وذلك في محاولة لإثبات أن العقل ظاهرة مادية أمكن محاكاتها بالكمبيوتر، وإذا كان الكمبيوتر يقوم بعمليات رياضية شديدة التعقيد بسرعة مذهلة مقارنة بقدرة الإنسان، فمن المدهش أن نعلم أن معامل ذكاء I.Q. الكمبيوتر يعادل (صفر Zero)! فليس له قدرة على الإبداع أو التفكير، كذلك فإن من يدعي أن الكمبيوتر يشبه العقل البشري كمن يدعي أن جهاز الراديو يعي ويفهم ما يذيع من برامج وأغنيات وموسيقى! إن الفرق الكبير هنا هو وعي العقل البشري وإحساسه بما يفعل.
أثبتنا في عرضنا السابق، أن نشأة النشاطات العقلية تتجاوز قدرات التطور الدارويني العشوائي، كما أن ممارستها تتجاوز قدرة الآلية الكهروكيميائية للمخ المادي، ولا تدع للمنصفين الموضوعيين مفراً من الإقرار بدور غيبي في النشاطات العقلية كما تخبرنا الديانات السماوية، وهو ما وصفه القرآن الكريم بقوله :”فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ” (الحجر: 29).
أخيرا.. لقد استعرضنا مجموعة من المفاهيم المتعلقة بنشأة العقل الإنساني وقدراته، وقد ثبت لنا بيقين عجز المنظور الإلحادي عن تفسير هذه المفاهيم، وأن ما يقدمه الماديون لا يصمد أمام أي تحليل وتفنيد موضوعي، وفي المقابل يضعنا تأمل كل من هذه المفاهيم في مواجهة حقيقية واحدة، وهي ألا تفسير لهذه الظواهر إلا الإيمان بالإله الحكيم القادر، وبذلك يصبح هذا الفصل مصداقاً لقوله تعالى:
“سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” (فصلت:53).
______________________
المصدر: المقال منقول بتصرف يسير من كتاب “وهم الإلحاد”، د. عمرو شريف، هدية مجلة الأزهر، عدد شهر محرم 1435.