يربط البعض بين صعود وهبوط تيار الإسلام السياسي إبان ثورات الربيع العربي ومابعدها وبين تنامي ظاهرة الإلحاد، فقد كان ثمة بريق لفكرة المشروع الإسلامي للنهضة وقدرة وجدارة الجماعات الإسلامية على التغيير في مجتمعاتها بما يحقق العدل والإنصاف ويحارب الفساد ويحقق الازدهار تحت راية الإسلام.. فعل يعتبر كل ما سبق من أسباب الإلحاد ؟!
د. محمد المهدي
تحدثنا في ختام الجزء الأول من المقال عن أن الأمراض النفسية مثل الفصام والاضطراب الوجداني والاضطراب الضلالي واضطرابات التوافق تؤثر في تفكير الشخص ومشاعره وعلاقاته بالناس والحياة وقد تجعله يتوجه في بعض الأحيان إلى اعتناق أفكار مخالفة لعموم الناس. وعلى الجانب الآخر قد تدفع هذه الحالات صاحبها لمزيد من التدين كنوع من الدفاع ضد التفكك أو القلق أو الخوف، وها نحن ننتقل إلى فصل جديد متعلق بالإلحاد..
الإلحاد واضطراب العلاقة بالسلطة:
والسلطة هنا قد تكون سلطة أبوية أو أمومية أو مدرسية أو دينية أو سياسية. ويعتبر فشل العلاقة بالسلطة الأبوية (أو الأمومية) هو الأساس والأصل لاضطراب العلاقة بالسلطة في المستويات الأخرى وصولا إلى سلطة الإله، فالشخص لديه حساسية شديدة ورفض وتمرد ضد أي سلطة.
الإلحاد والخطاب الديني:
هناك أنواع من الخطاب الديني تساهم بقوة في تنامي ظاهرة الإلحاد نذكر منها :
- الخلط بين الأصول والفروع وبين الثوابت والمتغيرات، وهذا يجعل بعض الفروع والمتغيرات تبدو كأصول وثوابت ربما يصعب على بعض الناس قبولها أو هضمها بسبب بعض التناقضات أو الإشكاليات العقلية فيكفرون بمجمل الدين.
- التجزيء والتفكيك للدين بما يجعله قضايا منفصلة بعيدة عن الجوهر الكلي للدين وحين يتناول العقل هذه الأجزاء المفككة لا يستطيع قبولها بسهولة خاصة إذا كان عقلا نقديا يتصيد الثغرات أو يفترضها بقوة ويريد إثبات وجودها نظرا لدوافع ذاتية.
- السلطوية والتسلطية.
- التوجه الصراعي الاستقطابي الاستعلائي العنصري والبعيد عن النزعة التراحمية الإنسانية العالمية.
- تقييد حرية العقل وحرية الإنسان بأكثر مما يتطلبه الدين في جوهره (اتساع دائرتي الحلال والحرام على حساب دائرة المباح)، ففي الدين الصحيح تتسع دائرة المباح لتمنح العقل مساحة للتفكر والتدبر والإبداع، أما في الدين المختزل فتضيق جدا هذه المساحة حتى تخنق العقل.
- فرط تديين الحياة البشرية مما يتيح سلطة استبدادية للقيادات والرموز الدينية لا يستطيع طالبي الحرية من الشباب المتمرد الخلاص منها إلا بالخلاص من الدين نفسه من وجهة نظرهم.
- الخطاب الترهيبي لدرجة التنفير أو الترغيبي الطفولي.
- كثرة الدوجماتيات (كثرة المطلقات المغلقة التي لاتقبل التفسير أو المناقشة أو التعديل).
- تعدد وتناقض الخطاب الموجه من الجماعات والمجموعات الدينية المتصارعة على الساحة.
- تسييس الخطاب الديني بما يجعله يفقد نقاءه وصفاءه وتجرده وروحانياته.
هل تجربة الإسلام السياسي من أسباب الإلحاد ؟
يربط البعض بين صعود وهبوط تيار الإسلام السياسي إبان ثورات الربيع العربي ومابعدها وبين تنامي ظاهرة الإلحاد، فقد كان ثمة بريق لفكرة المشروع الإسلامي للنهضة وقدرة وجدارة الجماعات الإسلامية على التغيير في مجتمعاتها بما يحقق العدل والإنصاف ويحارب الفساد ويحقق الازدهار تحت راية الإسلام، وقد أدى هذا إلى حماس الشباب في الثورات واندفاعهم بقوة لتحقيق حلم النهضة بمرجعية إسلامية طالما حلموا به، ولكن فشل مجموعات الإسلام السياسي (أو إفشالها) أدى إلى ردة فعل عكسية نتج عنها تنامي ظاهرة الإلحاد خاصة بين الشباب (الذي كان متدينا)، حيث اتضح عدم نضج التجربة السياسية للأحزاب والجماعات الإسلامية وسقطت رموز مهمة في أعين الشباب، وحدثت حالة من التمرد على قيادات وأفكار وممارسات تلك الجماعات من بعض الشباب المنتمين إليها أو المتعاطفين معها بينما بدا لفئة أخرى من الشباب أن الإسلام نفسه عاجز عن أداء الدور السياسي فانفلتوا منه.
وقد كانت هناك نصائح من العقلاء الحريصين على الإسلام وعلى الشباب أن تتمهل الأحزاب الإسلامية في توغلها السياسي وأن ترضى بالمشاركة دون المغالبة وأن تعطي فرصة لإنضاج التجربة السياسية لدى هذه الأحزاب على مهل ولكن قيادات هذه الأحزاب والجماعات اندفعوا بلا حساب نحو اغتنام السلطة والتمكين فحدث ما حدث؛ إذ أن توظيف الإسلام في العمل السياسي واستغلاله للصعود ثم عدم قدرته على الاستمرار (سواء لأسباب ذاتية أو خارجية) أعطى إيحاء لبعض الشباب بأن المشروع الإسلامي فشل وانسحب ذلك في وعيهم على الإسلام ذاته.
والأمر لم يقتصر على الشباب المسلم فقط وإنما هناك شباب مسيحي دخل دائرة الإلحاد، وربما كان تورط بعض القيادات الكنسية في العمل السياسي خلف إحباطات لهؤلاء الشباب الذين شاركوا في الثورات ثم وجدوا ما لا يتفق مع مبادئهم وطموحاتهم نحو الحرية .
التفكير المستقبلي لمجموعات الملحدين العرب:
هم يقومون الآن بتقوية روابطهم وزيادة أعدادهم أملا في الوصول إلى العدد الذي يسمح بالإعلان عن أنفسهم كأفراد وكمجموعات على أساس أن الخروج إلى العلن بأعداد كبيرة يجعل من الصعب مواجهة المجتمع لهم بأي إجراءات عقابية، وهم يطمحون في تكوين لوبي في المجتمع يدافع عن حقهم في الإعتقاد وحقهم في إثبات إلحادهم في بطاقات الهوية ، وحقهم في الدعوة لمبادئهم وأفكارهم ، وأن يعقدوا اجتماعاتهم ويقيموا فعالياتهم دون أي اعتراض قانوني أو مجتمعي .
التعامل مع موجة الإلحاد:
-
من المهم أن نفرق بين الخارج من الدين والخارج على الدين؛ فالأول لديه مشكلات في قناعاته الدينية أدت إلى انسحابه من الدين بشكل فردي في هدوء وربما مع الوقت وتغير الأحوال تتغير قناعاته ولكنه في النهاية لا يحاول زعزعة عقيدة غيره أو الترويج لأفكاره الإلحادية، أما الثاني (الخارج على الدين) فإنه لا يكتفي بإلحاده الشخصي وإنما يدعو غيره إلى الإلحاد ويشارك بنشاط في تكوين مجموعات وشبكات مرتبطة بأجندات سياسية أو جماعات مصالح تحتية، وهو يسخر من الأديان ومن معتنقيها ليل نهار ويسفه المجتمع الذي يعيش فيه وربما يعمل ضد استقرار هذا المجتمع.
ولهذا يمكن تقسيم حالات الإلحاد إلى الفئات التالية:
- المنسحبين الصامتين
- الباحثين عن اليقين
- الباحثين عن الشهرة
- المجاهرين المتمردين
- الناشطين في الدعوة للإلحاد
- المرتبطين بأجندات ومجموعات مصالح علنية أو سرية
- من المهم أن نفرق بين أنماط ومستويات الإلحاد المختلفة وأن ندرس كل حالة على حدة ونراعي الدوافع الكامنة وراء إلحاد كل شخص ولا يغرينا وجود عوامل مشتركة أن نعمم الأحكام على الجميع. وسيكون لكل حالة سيناريو خاص للتعامل معها، ولكن هناك قواعد عامة في التعامل مع هؤلاء الشباب ومنها التفهم والصبر وطول البال واستبقاء علاقة جيدة رغم الإختلاف وإعطاء الفرصة للتفكير والتيقن وعدم فرض أفكار سابقة التجهيز لأن المهم هو القناعة وليس الإذعان أو التظاهر بإيمان زائف. والعلاقة الطيبة مع الشخص ومساعدته في تجاوز أزماته النفسية والسياسية والاجتماعية تكون أهم من محاولات إقناعه بأدلة دينية وبحجج وبراهين عقلية أو نقلية.
-
حين تكتشف الأسرة أن ابنها قد دخل في الإلحاد غالبا ما تحدث حالة من الفزع وتتوجه الأسرة نحو الوعظ والإرشاد وتستدعي بعض العلماء لإقناع الابن بالعدول عن إلحاده، ولكن هذه المحاولات غالبا ماتفشل فتتجه الأسرة للحل العقابي وربما تمارس النبذ والطرد والتبرؤ من الابن وهذا يزيده عنادا وإصرارا ويدفعه بعيدا عن حضن الأسرة لتتلقفه روابط وجماعات الملحدين المحلية والدولية وتشحنه بالكراهية والضغينة تجاه أسرته وتجاه مجتمعه الذي لم يحترم حريته.
والبديل أن تتحلى الأسرة بالصبر وطول البال وأن تحتوي هذا الابن رغم تمرده العقيدي وتعطيه الفرصة لمزيد من المعرفة والتيقن وتستبقي حبال الود والتراحم معه فهذا هو حبل الإنقاذ المهم.
- إجراء دراسات علمية متخصصة على دوافع ومفاهيم وظروف الإلحاد في صوره الفردية والجماعية، وإذا أمكن يتم عمل قاعدة بيانات بأعداد الملحدين ومواقعهم وتأثيرهم وذلك بهدف التعامل الواقعي معهم بعيدا عن التعميمات والتهويلات.
- تدريب مجموعات من الشباب على فهم الظاهرة ومهارات التعامل مع الشباب الملحدين لأنهم يكونون أقرب إليهم وأقدرعلى تقديم المساعده دون إشعارهم بالسلطوية أو الفوقية التي يمكن أن تكون عائقا عند تعامل الكبار معهم .
- الاهتمام بالتواصل الإلكتروني (على الإنترنت) حيث يتركز نشاط شباب الملحدين عليه نظرا لتخوفهم من الظهور، وذلك يستدعي عمل مواقع للمساعدة والرد على التساؤلات الباحثة عن اليقين وعلى الشبهات والشكوك دون التورط في جدالات عقيمة قد يستدرج فيها الموقع من بعض الأشخاص أو المجموعات.
- دراسة أفكار الملحدين من خلال تفحص مواقعهم الإلكترونية وكتاباتهم وربما من خلال لقاءات حية معهم وذلك لترتيب محاضرات وندوات ومنشورات وكتيبات موجهة خصيصا وبشكل نوعي إلى جوانب التشكيك ومواطن الخلل في العلاقة بالدين أو المجتمع، وتجنب الوعظ في الهواء والذي لايتصل بالقضية وجوانبها بشكل مباشر.
- ترتيب ورش عمل وحلقات نقاشية مفتوحة لبعض الخطباء والأئمة حول مسألة الخطاب الديني وعلاقته بالإلحاد وحول جوانب الظاهرة وتعلقاتها الدينية والنفسية والاجتماعية والسياسية وكيفية التعامل النوعي المؤثر مع تلك الحالات.
- عمل جلسات فردية وجماعية للأفراد والمجموعات من الشباب الملحد يديرها أطباء نفسيون أو متخصصون في علم النفس أو التربية لتغطية الجوانب النفسية والتربوية في الموضوع .
- عمل توعية وقائية في الصحف والمجلات والإذاعة والتليفزيون للشباب الذي لم يقع بعد في دائرة الإلحاد على أن لا تشكل هذه الجهود الوقائية تهويلا للموضوع أو تضخيما له أكثر مما يجب.
- معالجة قضية اغتراب الشباب التي ترتكز على مشكلات سياسية ودينية وتجعل هؤلاء الشباب في حالة انفصال عن قضايا المجتمع لشعورهم بالنبذ والإهمال وشعورهم بأن الكبار يتحكمون في كل شئ، وهذا لا يتأتى إلا بإشراك الشباب في المشورة والفعل وإدماجهم في كل مجالات التنمية والنهوض بالمجتمع واحترام أفكارهم وإبداعاتهم.
- أما الأفراد والمجموعات الذين يتحركون بناءا على أجندات بعينها ويرتبطون بشبكات مصالح محلية أو دولية فيتولى أمرهم الجهات القانونية دون مبالغة في التخوين أو العقاب.
________________________________
المصدر: بتصرف يسير عن موقع الموسوعة النفسية
http://www.elazayem.com/new(211).htm