إذا قلنا إن كل شيء له مصدر، وأن هذا المصدر له مصدر وإذا استمر هذا التسلسل على الدوام فإنه من المنطق أن نصل إلى بداية أو نهاية. لا بد من أن نصل إلى مصدر ليس له مصدر وهذا ما نسميه “السبب الأساسي” وهو يَختلف عن الحدث الأساسي، فعلى سبيل المثال، إذا افترضنا أن الانفجار العَظيم هو الحدث الأساسي، ولكن الخالق هُو المُسبب الأساسي الذي سَبّبَ هذا الحدث…
(مقتطف من المقال)
بقلم/ فاتن صبري **
سماءٌ ذاتُ أبراج وأرضٌ ذاتُ فِجاج ألا تَدلُ على العَليم الخَبير:
يقول تقي الدين بن تيمية: “كيف يُطلَب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟ وكان كَثيرا ما يتمثل بهذا البيت: “وليس يصِحُّ في الأذهانِ شيءٌ … إذا احتاج النهارُ إلى دليل“.
يَسرد لنا القُران دلائل وُجود الله:
دليل الخلق والإيجاد:
ويَعني أن نشأة الكون من العدم، تَدل على وُجود الاله الخالق.
“إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ “.(آل عمران:190)
دليل الوُجوب:
إذا قلنا إن كل شيء له مصدر، وأن هذا المصدر له مصدر وإذا استمر هذا التسلسل على الدوام فإنه من المنطق أن نصل إلى بداية أو نهاية. لا بد من أن نصل إلى مصدر ليس له مصدر وهذا ما نسميه “السبب الأساسي” وهو يَختلف عن الحدث الأساسي، فعلى سبيل المثال، إذا افترضنا أن الانفجار العَظيم هو الحدث الأساسي، ولكن الخالق هُو المُسبب الأساسي الذي سَبّبَ هذا الحدث.
سألني مُلحد يوماً سؤالاً، ظناً مِنه أنني لن أجد له إجابة، قال: إذا كان الله هُو الخالق، فمن الذي خلق الله؟
قُلت له: أجبني على سُؤال بسيط أولاَ، وسوف تَعرِف الإجابة.
قال: حسناَ.
قلتُ له: ما هي رائحة اللون الأحمر؟
قال: لا يُوجد إجابة على هذا السؤال لأن اللون الأحمر لا يُصنّف ضِمن الأشياء التي يُمكن شمّها.
قُلت له: شُكراَ لك، وبذلك، كُل سبب له مُسبّب، لكن الإله بِبساطة لم يُسبَّب، ولا يُصنَّف ضِمن الأشياء التي يُمكن خَلقها. الإله هو الأول قبل كل شيء، فهو المُسبًب الأساسي.
إن الشركة المُصنِّعة لسِلعة أو بِضاعة كالتلفزيون أو الثلاجة مثلاً، تضع قوانين وضوابط لاستخدام الجِهاز، وتقوم بكتابة هذه التعليمات في كتاب يشرح طريقة استخدام الجِّهاز وتُرفِقُه مع الجهاز. وعلى المُستهلك اتباع هذه التعليمات والتقيّد بها إذا ما أراد أن يَستفيد من الجهاز على النحو المطلوب، في حين أن الشركة المُصنِّعة لا تَخضع لهذه القوانين.
فالله هو الذي خلق قانون السببية، ولا يُمكن اعتباره خاضعاً للقانون الذي خَلقَه، لقد خلق الوقت. لذا فهو لا يخضع للوقت. فهو لا يمر في نفس المراحل الزمنية التي نمر نحن بها، ولا يَتعب، ولا يحتاج إلى وضع نفسه في شكل مادي أو أن ينزل إلى الأرض. لذلك لا يُمكننا أن نراه في هذه الحياة، لأننا مُحاصرون في الزمان والمكان، فعلى سبيل المثال: يُمكن للشخص الذي يَجلس في غُرفة بلا نوافذ أن يرى داخل الغرفة فقط. ولرؤية ما في الخارج، يَجب عليه مُغادرة الغُرفة. ومع أن قانون السببية مِن سُنن الله الكونية، إلا إن الله سبحانه وتعالى فعالٌ لما يُريد، وله طلاقة القدرة.
فسألني: لماذا لا يُمكن أن يأتي الله إلى الأرض بأيّ صورة ٍكانت؟
قلُتُ له: على سبيل المثال، ولله المثل الأعلى، ولتقريب الفكرة فقط، فعندما يَستخدم الإنسان الجِهاز الإلكتروني، ويَتَحَكّم فيه من الخارج، فإنه لا يَدخل بأي حال من الأحوال داخل الجِهاز. فَضَحِك وقال: فعلاً كلام سليم.
دليل الإتقان والنظام:
ويَعني أن دِقّة بِناء الكون وَقوانينه تَدُل على وُجود الاله الخالق.
“الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ“. (المُلك: 3)
“إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ“. (القمر: 49)
دليل العِناية:
وهو أن الكون قد تَمّ بِناؤه ليَكون مُلائما تماما لنشأة الانسان، وَيعود هذا الدّليل إلى صِفات الجّمال وَالرّحمة الإلهية.
“اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ“. (إبراهيم:32)
دليل التَسخير والتَدبير:
وَيَختص بصفات الجلال والقدرة الإلهية.
“وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.”. (النحل: 5 – 8)
دليل التَخصيص:
ويَعني أن ما نَراهُ في الكَون، كان يُمكن أن يَكون على هيئات عديدة، لكن الله عزّ وجلّ اختار مِنها الهيئة الأفضل.
“أفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ.أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ. لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ“. (الواقعة:68-69-70).
“أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا“. (الفرقان:45)
مِن أين جِئنا:
يَذكر القرآن احتمالات لشرح كيفية خلق الكون ووُجوده:
“أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ. أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ“. (الطور:35-36-37)
**أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ:
وهذا يتنافى مع كَثير مِن القَوانين الطَبيعيّة التي نراها مِن حولنا. فمثال بسيط، كأن نقول إن أهرامات مِصر وُجدت من لا شيء كافي أن يّدحض هذا الاحتمال.
**أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ:
خلق الذات. هل استطاع الكون أن يخلق نفسه؟ يُشير مُصطلح “مخلوق” إلى شيء لم يكن موجوداً وَظَهَر إلى الوُجود، الخلق الذاتي هو استحالة مَنطقية وعملية. هذا يرجع إلى حقيقة أن الخلق الذاتي يعني أن شيئًا ما كان مَوجودًا وليس موجودًا في نفس الوقت، وهو أمر مستحيل. والقول إن الإنسان خلق نفسه يعني أنه كان موجوداً قبل أن يكون موجوداً!
إن كثيراً من الناس حين تسأله من أوجدك فيقول ببساطة: والدي هُم السًبب في وُجودي في هذه الحياة، ومن الواضح أنه جواب يُراد به الاختصار وإيجاد مَخرج لهذه المَعضلة. فالإنسان بطبيعته لا يُريد أن يُمعن التفكير ويجتهد، فهو يعلم أن والداه سيموتان، ويبقى هو وتأتي من بعده ذريته لتُعطي نفس الجواب، وهو يعلم أنه ليس له يد في خلق أبناؤه. فالسؤال الحقيقي هو: من أوجد سُلالة الإنسان؟
وقد علق أحدُ المُلحدين على هذه النقطة بقوله: أنه يُمكن العُثور على الخلق الذاتي في الكائنات أُحادية الخلية، والمَعروفة أيضًا في عِلم الأحياء باسم التكاثر اللاجنسي. طبعا جوابي دائما يكون: أنه يجب بدايةً افتراض أن الخلية الأولى مَوجودة أصلاً لطرح هذا النقاش. وإذا افترضنا هذا القول، فإن هذا ليس خَلقاً ذاتياً، بل هو أسلوب تَكاثر، والذي ينشأ من خلاله النسل من كائن حي واحد، ويرث المادة الوراثية لذلك الوالد فقط.
**أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ:
ولم يُوجد أحد ادّعى أنه خَلق السّماوات والأرض، إلا صاحب الأمر والخَلق وَحده، هو مَن كَشف عن هذه الحقيقة، عندما أرسل رُسُلَه إلى البشرية، والحقيقة هي، أنه هو خالق وبديع ومالك السماوات والأرض وما بينهما. وليس له شريكٌ ولا ولد.
“قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ“. (سبأ: 22)
ومُمكن أن نَضرب مِثالاً هُنا، وَهُو عند العُثور على حقيبة في مَكان ٍعام، ولم يأتِ أحد ليدّعي أنه صاحب الحقيبة، باستثناء شخص واحد، قام بتقديم مُواصَفات الحقيبة ومُواصَفات ما بِداخلها للدّلالة على أنها لَهُ. في هذه الحالة تُصبِح هذه الحقيبة من حَقّهِ، إلى أن يَظهر شخص أخر غيره ويَدّعي أنها له، وهذا حسب قوانين البشر.
** وُجود خالق
كلّ ذلك يَقودُنا إلى الجّواب الذي لا مَفّر مِنه، وَهُو وُجود خالق. والغريب أن الإنسان يُحاول دائما أن يَفترض احتمالات كثيرة بَعيدة عن هذا الاحتمال، وكأنّ هذا الاحتمال شيء خيالي مُستبعد لا يُمكن تصديقه أو التحقق من وُجوده. فلو وَقفنا وَقفه صادقة، عادلة ونظرة عِلمية ثاقبة، لتَوصّلنا لحقيقة أن الإله الخالق لا يُمكن الإحاطة به، فُهُو الذي خَلَق الكون بأسره، فلا بُد أن ذاته خارج الإدراك الإنساني، ومن المَنطقي أن نفترض أن هذه القُوة الغيبية ليس من السّهل التَحقّق مِن وُجودها، ولا بُدَّ مِن هذه القُوة أن تُفصِح عن ذاتها بنفسها بالطريقة التي تَراها مُناسبة للإدراك البشري. ولا بُدَّ للإنسان أن يَصل لقناعة، أن هذه القُوة الغيبية حَقيقة مَوجودة وأنه لا مَفر من اليقين بهذا الاحتمال الأخير والمتبقي لتفسير سِرّ هذا الوُجود.
“فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ” (الذاريات: 50)
وأنه لا بُدَّ من الإيمان والتسليم بوُجود هذا الإله الخالق المُبدع، إذا ما كُنّا نَبحث عن دَوام الخير والنعيم والخُلود الأبدي.
يُتبع >>>
** فاتن صبري (1973) مفكرة إسلامية، تعمل في مجال الدعوة للتوحيد وتصحيح المفهوم الخاطئ عن الخالق، عُرفت بنشاطاتها في التواصل مع مختلف الثقافات والديانات، تتحدث خمس لغات، درست مقارنة الأديان، ونشرت العديد من الكتب، وتُرجمت بعض كتبها لأكثر من 14 لغة.