عمرو بسيوني
ليست المشكلة في الإلحاد –في نظري- كونه مجالاً مشكلاً وزائفًا على المستوى العقلي فحسب؛ فنحن نعلم أن كثيرًا من الناس لا يعير موضوع العقل اهتمامًا حقيقيًا، وإن كان يبدي اهتمامًا ظاهرًا مبالغًا فيه بالعقل ومنزلته ومجالاته، فقد استكشفنا في محاولة مختصرة سابقة عن (الأسس اللاعقلية للإلحاد) في موضوع مشكلة مبدأ العالم؛ أن ذلك الاهتمام والأهمية التي تتعلق بالمجال العقلي عند الملحدين كانت في حقيقتها دعوى لمحاربة الدين أكثر منها محاولة صحيحة لتأسيس عقلانية جديدة.
الإلحاد الذي يطرح نفسه كبديل للدين إذن ينبغي أن يتسع مجاله لما يتسع له المجال الديني، فلا شك أن المجال الديني أوسع كثيرًا من البحث العقلي، سواء دعوناه لاهوتيًا، أو عقديًا، أو فلسفيًا. فالمجال الديني يتسع ليغطي أغلب مجالات النشاط الإنساني، إن لم يكن كلها كما في النموذج الديني الكامل، الذي هو الإسلام واقعيًا.
فالدين يتخطى المساحات العقدية – بعد إعطاء الإيمان الاهتمام الكافي والمحوري بطبيعة الحال – لينطلق إلى مساحات أخرى تتعلق بالفرد والجماعة: تتمثل في العبادات، والأخلاق، والمعاملات، وهذا هو ما نعنيه بالمجال العملي للدين.
المجال العملي للدين
ذلك المجال العملي لازم لا يمكن أن يغفله دين صحيح، فإن أي مذهب يقدم نفسه على نحو فلسفي خالص، دون آثار مسلكية، أو رؤية اجتماعية؛ فإنه لا يكون دينًا، بل إننا قد نجد على العكس، أن ثمة أديانًا تطرح نفسها كأديان، دون أن تقدم أساسا لاهوتيًا، على نحو ما نجد في البوذية والكونفشيوسية، التي تعطي الأهمية والمقام الأول للأخلاق، والعبادات، والواجبات الاجتماعية، وتعرض، بل تنهى في كثير من الأحيان عن التعرض للبحث اللاهوتي.
يمكن تلمس ذلك المكون العملي الحاسم في الدين أيضًا بالنظر في النموذج المحدِّد للدين الذي وضعه “نينيان سمارت” (Ninian Smart) (1927-2001) فيلسوف الدين الشهير، والذي يحظى بقبول واسع في مجال فلسفة الدين، حيث يتصور سمارت أنه من الأجدى الإعراض عن وضع (تعريف) للدين، كي نميز بين الدين والفلسفة؛ بأن نضع (نموذجًا) للدين، واقترح نموذجا سباعي الأبعاد (Seven Dimensions) لوصف أي مذهب بأنه الدين. وهذه الأبعاد إجمالاً هي: البعد الطقسي أو العملي، والبعد التجريبي أو العاطفي، والبعد السردي أو الأسطوري، والبعد العقائدي أو الفلسفي، والبعد الأخلاقي أو القانوني، والبعد الاجتماعي أو المؤسسي، والبعد المادي(1).
وإذا اجتنبنا البعد العقائدي أو الفلسفي مع البعد السردي؛ فإننا نلحظ في يسر أن غالب الأبعاد الأخرى ذات طابع عملي، بطريقة مباشرة، فإذا خلا أي منظور علمي أو عملي من أحد تلك المحددات؛ غدا مجرد مذهب فلسفي، أو تقنية عملية، مع ملاحظة أن خلو المذهب الفلسفي من الأثر السلوكي الواضح يحوله لمجرد كلام بارد، لا فائدة منه، وكذا إذا خلت التقنية من المعنى والأساس النظري؛ غدت عبثًا مجردًا، أقل قيمة من دمية الأطفال.
من المنطقي أيضًا أن نوضح أن الإلحاد لم يزعم -مباشرة على الأقل- أنه دين؛ حتى يمكن إلزامه باستيفاء الجوانب التي يقدمها الدين للإنسان، ولكن الذي لا يمكن إغفاله بحال من الأحوال أن الإلحاد الذي يقدم رؤية كونية للإنسان والعالم ينحي بها الدين جانبا؛ لا يمكن أن يرضى بأن يكون فلسفة باردة أو تقنية عبثية، ولذا ينبغي عليه، علميًا وأدبيًا وإجرائيًا، أن يقدم بدائل عن تلك التي يطرحها الدين لكافة المجالات، لأن الإلحاد بطبيعته هو مذهب نفيٍ للدين، فيجب أن يشتغل على كافة مساحات شغل الدين لينفيها ويؤكد صحته، وإلا فإنه لا يستطيع الزعم أن الدين خرافة والإلحاد حقيقة؛ لأننا ببساطة لا يمكن أن نترك الحقيقة لأجل الخرافة، ولو في مجال واحد من مجالات الحياة، هذا إذا كانت خرافة بالفعل!
باختزال مفيد: يجب على الإلحاد أن يثبت فعالية في كل المجالات التي يسهم الدين بفعالية فيها؛ حتى يحصل على مشروعية وجوده.
فيما يتعلق بموضوعنا: من الواضح أن الدين يقدم للحياة معنى، فالله خلق الكون، وخلق الإنسان، ووهبه الحياة، وقضى عليه الموت، والله يبعث الموتى للحساب، ويكون فيه الثواب والعقاب. هذا التصور الكلي هو محل اتفاق بين الأديان الإبراهيمية كما لا يخفى، فمعنى الحياة إذن: عبادة الله، وموافقة رضاه، والتنعم بذلك الرضا الحسي والمعنوي في الفردوس السماوي، وحتى في بعض الأديان غير الإبراهيمية لا تخلو الحياة من معنى متعلق بالألوهية، حتى في الأديان الهندوسية التي تتشبث بالتناسخ والكارما– قانون الأعمال وإعادة الولادة-، أو النيرفانا البوذية التي تتوصل إلى السكون المطلق للتخلص من الألم، والاتحاد بالروح الكلي.
يبرّر ذلك المعنى للحياة أيضا المسألة الأخلاقية؛ فالحرص على الفضيلة واجتناب الرذيلة يكون مبررًا على نحو عملي حينئذ، ولا نقدر على التوسع لتفصيل هذا الموضوع هاهنا، ولكن يكفي فقط أن نرى الرؤية الكانطية للدين، فرغم أنه رأى أن (الدين في حدود العقل) غير مبرهن، ورأى وجود الإيمان من نقائض العقل، وقام بمحاولة تفنيد الأدلة العقلية الذائعة على الوجود الإلهي في (نقد العقل المحض)؛ إلا أنه رجع فأقر بأن الدين من مصادرات (العقل العملي)؛ لأنه فقط الذي يضمن الأخلاق، وحرية الإرادة.
فماذا تراه يكون معنى الحياة وفق المنظور الإلحادي بعد أن حذف الوجود الإلهي من الحياة؟
لماذا نحن هنا؟ وإلى أين سنصير؟ هل سينتهي الأمر إلى العدم؟
لماذا نلتزم الفضيلة: الخير والحق والجمال؛ إذا كان أورع العٌبَّاد مستويا في المصير مع أفجر العاهرات، وأشرس القتلة؟
الإلحاد يؤدي إلى اليأس، ويحرم المظلومين من الأمل في تصحيح ذلك الظلم يومًا ما، ويحبط الرغبة الإنسانية الفطرية في الخلود، ومن ثم فإنه يحرم من أي دافع حقيقي – غير آنٍ – للعمل في هذه الحياة.
ليست تلك دعاوى المتدينين ضد موقف الإلحاد من معنى الحياة والغرض منها، ولكنّ ذلك ما تجسد في إجابات الملحدين ومواقفهم واتجاهاتهم النظرية والعملية تجاه تلك القضية، منذ نشأ الإلحاد الحديث في القرن السابع عشر.
اتجاهات الملحدين
يمكن تقسيم الملحدين عمومًا إلى اتجاهين كبيرين فيما يتعلق من الموقف من الحياة، معناها وغرضها: اتجاه تفاؤلي، واتجاه تشاؤمي.
ربما يمثل الفيلسوف الملحد “مايكل مارتن” Michael Martin) (1932) (2)= ذلك الاتجاه التفاؤلي، حيث يشير مارتن إلى أن الإنسان بإمكانه أن يجد للحياة معنى في جوهر مشاريعه الفردية، بغض النظر عما إذا كانت حياته ككل ذات مغزى أم لا ! (فإن الإلحاد يجب أن يعترف أن الحياة ككل ليست ذات مغزى).
فإنه وإن كان صحيحًا أن الحياة على الأرض سوف تباد بالموت الحراري heat death كما هو مفترض؛ فإن ذلك لا يجعل المنجزات البشرية الحالية خاليةً من القيمة، ما دمنا هنا فهناك معنى.
يقر مارتن أنه إذا نظرنا للحياة بنظرة تجريدية كلية شاملة، إلى مجموع النشاط البشري في العالم، التجارة، السلام، الحرب، الحب، فإنه يمكن أن نرى أن كل ذلك بلا معنى. ولكننا كبشر لسنا ملزمين بتلك الرؤية، التي يسميها مارتن: رؤية بعين الله God’s eye، وبالتالي فلا داعي لليأس(3).
يبدو أن مارتن يحاول تجاوز مشكلة عدمية الحياة إلى تعليق معنى الحياة بالمنجزات الشخصية، فأنت تجد لحياتك معنى ما دمت تضع لها هدفًا وتسعى لتحقيقه، كالدراسة، والزواج، والعمل، والكفاح السياسي، والحرب … إلخ. ولكن ما زعمه مارتن رؤيةً بعين الله، كرؤية كلية شاملة للكون؛ ليست مقتصرة على الكون الكلي في الحقيقة، فقد أعرض مارتن عن لب المشكلة الحقيقية، فإن فناء الكون الكلي ليس إلا فناء الإنسان، الذي يحاول مارتن أن يقصر طموحه على الإنجاز الفردي، ليكن؛ ولكن أين الإنجاز الفردي في العدم؟!، إذا فنى الكون فقد فني الإنسان بإنجازاته وطموحاته، حتى لو حقق بعض المعنى لنفسه في إنجازاته الجزئية الآنية، لابد أن يأتيه الوقت الذي يرى نفسه بمثابة من يزرع وردة في مزبلة!، سيموت الإنسان وتموت نجاحاته، ويصبح عدما، لا قيمة له، ولا إنجاز، ولا معنى بطبيعة الحال.
الاتجاه الأكثر تجنبًا للخوض في المشكلة، هو ما لجأ إليه بعض الملحدين في القرن الثامن عشر، كـ”لامتريه” (La Mettrie) (1709-1751) الفيلسوف الملحد الفرنسي، حيث ربط تلك القضية بمسألة الموت. فقد اقترح لامتريه دعوى أن القلق من الموت لا ينشأ إلا من العقائد الدينية، لما في الآخرة من عقاب، ومن ثم فإنه يرى أن إلغاء هذه الفكرة – الدين- من شأنه أن يلغي القلق(4)، وانتهج “هولباخ” (Holbach) (1723-1789) نفس الاتجاه، حين أشاد بالرؤية الأبيقورية للموت بأنه لا يخضع للتجربة، ومن ثَمَّ فإنه لا ينبغي أن يمثل أهمية للبشر، فرأى هولباخ أن المذكور في الأديان عن عواقب الموت لا يمثل قلقًا(5).
ونلاحظ أن مثل هذا الموقف لم يعدُ كونه مجرد تناسٍ وإعراضٍ عن التفكير في الموت لا أكثر، فهو يتلاهى عن الموت لأنه لا يخضع للتجربة، فلا ينبغي القلق بشأنه، في حين يظهر أن الأكثر منطقية هو أن الذي لا يخضع للتجربة (المجهول) هو أكثر إثارة للقلق!.
وبغض النظر عن هذا الموقف؛ يقتضي الإنصاف أن نقرر أن عموم المفكرين الملحدين يعترفون بأن الغالبية العظمى من الملحدين عاجزون عن تحييد الخوف من الموت والعدم.
على سبيل المثال: اعترف “كلود أدريان هيلفيتوس” Claude-Adrien Helvetius 1715-1771))، و”دنيسديدرو” Denis Diderot 1713-1784)) بأن النتائج المترتبة على الإلحاد تتسق مع الاكتئاب، وبناء على ذلك سعى بعض هؤلاء المفكرين الملحدين لإيجاد الراحة بالقضاء على القلق من الموت بواسطة أشكال مصطنعة من البقاء على قيد الحياة بعد الموت، مثل فكرة: بقاء الأنواع species survival، حيث يؤكد “ديدرو” – كمثال- على أن الفرد يموت، ولكن الأنواع لا نهاية لها(6)!.
يمكن أن ندرج جهودًا أخرى في ذلك الاتجاه عن طريق ما يعرف بالماركسية العلمية الإلحادية Marxist Scientific Atheism، وكذا الداروينية الاجتماعية Social Darwinism، والإنسانية- الهيومانية- العلمانية الإصلاحية Reformist Secular Humanism، التي يمثلها بطريقة أو بأخرى الداوكينزيون Dawkinsian، كأشكال للإلحاد تحاول معالجة مشكلة اللامعنى Meaninglessness، من خلال تعزيز الإيمان بأشكال بديلة للبقاء على قيد الحياة.
لقد كان ما تقدم هو الطرح التفاؤلي الإلحادي، الذي قد يعد في بعض الأحيان هزلاً أكثر منه تفاؤلاً، فإنه يمكننا أن نعبر عن اختراعات الحياة بعد الموت، ولو لم تسمّ بذلك الاسم، على أنها ميتافيزيقا الماديين المنكرين للميتافيزيقا، ولاهوت إلحادي(7) للملحدين.
وبموضوعية بالغة؛ تبقى الأغلبية الكاسحة من المفكرين الملحدين في الجانب الآخر، المتشائم، والأكثر تشاؤمًا.
وهو ما سنعرضه في الجزء الثاني من المقال
المراجع:
(1) قدم تلك الرؤية في أعماله الثلاثة الأكثر أهمية:
(The Phenomenon of Religion (1973).
(The Science of Religion & the Sociology of Knowledge: Some Methodological Questions 1973).
Dimensions of the Sacred: An Anatomy of the World’s Beliefs (1996)).
(2) من أهم أعماله: (The Impossibility of God 2003) ، وطرح رؤيته المذكورة عن معنى الحياة، والأخلاق بالنسبة للإلحاد في كتابه: (Atheism, A Philosophical Justification, (1990), Atheism, Morality and Meaning 2002).
(3) Michael Martin, Atheism , A Philosophical Justification , (1990), 13-23 .
(4) Georges Minois , Histoire de L’atheisme , (1998) , 371 .
(5) Ibid , 369 .
(6) Ibid , 363 .
(7) تعبير اللاهوت الإلحادي هو تعبير شائع لدى كثير من منتقدي الإلحاد، والملحدين على حد سواء.
راجع للضرورة: اللاهوت الإلحادي لما بعد الحداثة، لمارك تايلور= Mark C.Taylor , A Postmodern A/theology, (1984)
_____________________________________
المصدر: بتصرف يسير عن موقع مركز نماء للبحوث والدراسات