العبودية لله تعالى لا تأتي بأمر تكليف.. لكننا نعبده لأننا عرفنا جماله و جلاله.. ولأننا لا نجد في عبادته ذلاً بل تحرراً وكرامة…
د. مصطفى محمود
-
قال صديقي: ما رأيك في هذه الآية؟
“وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ” (الذاريات:56) هل كان الله في حاجة لعبادتنا؟!
** قلت: بل نحن المحتاجون لعبادته.. الله عز وجل هو الأجمل من كل جميل.. إذا عرفت جلاله وجماله وقدره عبدته، ووجدت في عبادتك له غاية السعادة والنشوة.
إن العبودية لله عندنا لا تكون إلا عن معرفة.. و الله لا يُعبد إلا بالعلم.. و معرفة الله هي ذروة المعارف كلها، ونهاية رحلة طويلة من المعارف تبدأ منذ الميلاد، وأول ما يعرف الطفل عند ميلاده هو حضن أمه، ثم يتعرف على أبيه وعائلته ومجتمعه وبيئته، ثم يبدأ في استغلال هذه البيئة لمنفعته، فإذا هي حضن آخر كبير يدر عليه الثراء والمغانم والملذات، فهو يخرج من الأرض الذهب والماس، ومن البحر اللآلئ، ومن الزرع الفواكه والثمار، وتلك هي اللذة الثانية في رحلة المعرفة.
ثم ينتقل من معرفته لبيئته الأرضية ليخرج إلى السموات و يضع رجله على القمر، ويطلق سفائنه إلى المريخ في ملاحة نحو المجهول ليستمتع بلذة أخرى أكبر هي لذة استطلاع الكون، ثم يرجع ذلك الملاح ليسأل نفسه.. ومن أنا الذي عرفت هذا كله.. ليبدأ رحلة معرفة جديدة إلى نفسه.. بهدف التحكم في طاقاتها وإدارتها لصالحه وصالح الآخرين، وتلك لذة أخرى…
ثم تكون ذروة المعارف بعد معرفة النفس هي معرفة الرب الذي خلق تلك النفس.. وبهذه المعرفة الأخيرة يبلغ الإنسان ذروة السعادات، لأنه يلتقى بالكامل المتعال الأجمل من كل جميل.. تلك هي رحلة العابد على طريق العبادة.. وكلها ورود ومسرات..
وإذا كانت في الحياة مشقة، فلأن قاطف الورود لابد أن تدمي يديه الأشواك.. والطامع في ذرى اللانهاية لابد أن يكدح إليها.. حتى لحظة وصول العابد إلى معرفة ربه وانكشاف الغطاء عن عينيه.. ما أروعها.
يقول الصوفي لابس الخرقة: ”نحن في لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف”
تلك هي لذة العبادة الحقة.. وهي من نصيب العابد.. ولكن الله في غنى عنها وعن العالمين.. ونحن لا نعبده بأمر تكليف ولكنا نعبده لأننا عرفنا جماله وجلاله.. و نحن لا نجد في عبادته ذلاً بل تحرراً و كرامة..
تحرراً من كل عبوديات الدنيا.. تحرراً من الشهوات والغرائز والأطماع والمال.. ونحن نخاف الله فلا نعود نخاف أحداً بعده ولا نعود نعبأ بأحد سواه.
خوف الله شجاعة.. وعبادته حرية.. والذل له كرامة.. ومعرفته يقين وتلك هي العبادة..
نحن الذين نجني أرباح العبادة ومسراتها.. أما الله فهو الغني عن كل شيء.. إنما خلقنا الله ليعطينا لا ليأخذ منا.. خلقنا ليخلع علينا من كمالاته فهو السميع البصير، وقد أعطانا سمعاً وبصراً وهو العليم الخبير، وقد أعطانا العقل لنتزود من علمه، والحواس لنتزود من خبرته.
العبودية لله والعبودية للبشر
العبودية لله إذن هي عكس العبودية في مفهومنا.. فالعبودية في مفهومنا هي أن يأخذ السيد خير العبد، أما العبودية لله فهي على العكس، أن يعطى السيد عبده ما لا حدود له من النعم، و يخلع عليه ما لا نهاية من الكمالات.. فحينما يقول الله: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ” فمعناها الباطن ما خلقت الجن والإنس إلا لأعطيهم و أمنحهم حباً وخيراً، وكرامة وعزة، وأخلع عليهم ثوب التشريف والخلافة.
فالسيد الرب غني مستغن عن عبادتنا.. ونحن المحتاجون إلى هذه العبادة والشرف، والمواهب والخيرات التي لا حد لها.
فالله الكريم سمح لنا أن ندخل عليه في أي وقت بلا ميعاد، و نبقى في حضرته ما شئنا وندعوه ما وسعنا.. بمجرد أن نبسط سجادة الصلاة ونقول “الله أكبر” نصبح في حضرته نطلب منه ما نشاء .
أين هو الملك الذي نستطيع أن ندخل عليه بلا ميعاد و نلبث في حضرته ما نشاء؟!
و في ذلك يقول مولانا العبد الصالح الشيخ محمد متولي الشعراوي في شعر جميل:
حسب نفسي عزاً إنني عبد يحتفل بي بلا مواعيد رب
هو في قدسه الأعز ولكن أنا ألقى متى وحين أحب
و يقول: أروني صنعة تعرض على صانعها خمس مرات في اليوم – يقصد الصلوات الخمس- وتتعرض للتلف !
وهذه بعض المعاني الباطنة في الآية التي أثارت شكوكك: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ” و لو تأملتها لما أثارت فيك إلا الذهول والإعجاب .
___________________________________
المصدر: بتصرف عن الفصل الثالث عشر “شكوك” من كتاب/ حوار مع صديقي الملحد