انعقد الإجماع على استحباب العمـل التطوعي باعتباره نـوع من أنواع الهبة التي تَعَامَل بها الناس من زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا…
(مقتطف من المقال)
د. عثمان عبد الرحمن عبد اللطيف
مهما تعاظمت موارد الدول وقدراتها الاقتصادية لن تستطع وحدها أن تلبى طموحات شعوبها وترتقى بكيانها في غمار تلك التحديات الدولية المتزايدة، الأمر الذى يشير إلى أهمية العمل التطوعي ودوره الفعال في تحقيق الأهداف التنموية والنهوض بالأمة الإسلامية.
وإزاء ذلك وفى محاولة منا لبيان أهمية العمل التطوعي في الإسلام، يتعين علينا بيان المقصود بالعمل التطوعي، وبيان أهميته في تحقيق الأهداف التنموية المختلفة، وحتمية تفعيل دور التطوع.
المقصود بالعمل التطوعي
التطوع لغـة : لاَنَ وتَنَفَّلَ، أى تَكَلَّفَ الطاعة.
يُقـال: قام بالعبادة طائعاً مختاراً دون أن تكون فرضا لله. وفى التنزيل الحكيم: “…فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ…” (البقرة:184).
ولقد أورد الفقهاء مسألة العمل التطوعي ضمن مسائل الهبة في باب المعاملات، حيث إن العمل التطوعي من عقود التبرعات التي تفيد تمليك العين بلا عوض، ولذا اعتبر ضمن عقود الهبة، مع أن لفظ التطوع أشمل بحيث يضم مفردات الهبة، إلا أن الفقهاء لم يذكروا التطوع كنوع من أنواع العقود لما بينهما من اتصال في المعنى. و بالتالي يمكن تعريف العمل التطوعي في الاصطلاح بأنه البذل للخير بغير عوض.
وبهذا المعنى ثبتت مشروعية العمل التطوعي في الكتاب والسنة و الإجماع.
أما الكتاب: يقول الله تعالى: “… وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ…” (البقرة:158). أي فمن أتى بشيء من النوافـل فإن الله يشكره، وشكـر الله للعبد إثابته على الطاعة. وأما السنة: فقد وردت أحاديث كثيرة تدل على مشروعية العمل التطوعي منها.
ما روى عن أبى موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على كل مسلم صدقة) قيل أرأيت إن لم يجد؟ قال: (يعتمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق) قـال: قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: (يعين ذا الحاجة الملهوف) قال: قيل له: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: (يأمر بالمعروف أو الخير)، قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: (يمسك عن الشر فإنها صدقة). فالتطوع من باب التصدق ونشر الألفة بين الناس والتعاون على الخير والبر بعيداً عن الفردية أو الأنانية أو السلبية.
أما الإجماع، فقد انعقد على استحباب العمـل التطوعي باعتباره نـوع من أنواع الهبة التي تَعَامَل بها الناس من زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا.
يقـول الله تعالى: “… وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ…” (المائدة:2). وبديهي أن العمل التطوعي سبب للتعاون ونشر الخير والمودة بين الناس.
أهمية العمل التطوعي في تحقيق الأهداف التنموية
اختلف علماء الاجتماع في تحديد مفهوم الأهداف التنموية إلى مذاهب وآراء بسبب طبيعة الإطار العام لهذا المفهوم، وإن كان الجميع يلتقي عند حتمية الإعداد البشرى والمادي والتشريعي والأخلاقي للمجتمع، بحيث يتحقق له شكل من أشكال التقدم بأسلوب علمي صحيح.
ومن خلال النظر في هذا المفهوم نجد أن الإنسان هو العنصر الأساسي في تحقيق الأهداف التنموية، وأن أي تقدم تنموي يحتاج إلى العمل التطوعي المتبادل بين أفراد المجتمع دون انتظار لمقابل، فهو العمل الذي يقف عند تبادل المنافع أو تحقيق المصالح، ولكنه التطوع الصادق الذي يسعى لتحقيق معـانى الأخوة الإنسانية مع تحقيق العون الإنمائي الإسلامي الشامل.
يحكي الرحالة ابن بطوطة عن حادثة يُظهر فيها مدى أهمية العمل التطوعي في تحقيق الأهداف، رغم بساطة هذا العمل فيقول: مررت يوماً ببعض أزقة دمشق فرأيت مملوكاً صغيراً قد سقطت من يده صحفة من الفخار الصيني وهم يسمونه الصحن، فتكسرت واجتمع علية الناس فقال له بعضهم اجمع شقفها واحملها معك لصاحب الأوانى، فجمعها وذهب الرجل معه إليه فأراه إياها فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن.
ويعلق ابن بطوطة على تلك الحادثة بقوله: وهذا من أحسن الأعمال فإن سيد الغلام لابد له أن يضربه على كسر الصحن أو ينهره، وهو أيضا ينكسر قلبه ويتغير لأجل ذلك، جزي الله من تسامت به همته في الخير إلى مثل ذلك.
ولقد حرص الإسلام على إعطاء أهمية خاصة للعمل التطوعي سعياً منة إلى تحقيق الأهداف التنموية المختلفة، حيث أعطاه أولوية متقدمة ضمن نصوصه التشريعية، ويمكننا تلخيص أهم الشواهد والأدلة فيما يلى :-
1- دعم التنمية الاقتصادية
أولت الشريعة الإسلامية للعمل التطوعي بهدف دعم التنمية الاقتصادية اهتماماً دقيقاً، حيث جعلته جوهراً للتنمية، يقول الله تعالى: “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” (القصص:77) .
ويقول الله تعالى: “فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ. وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ” (الليل:5 – 10).
فحقيقة العطاء هي المناولة، وهي في اللغة والاستعمال عبارة عن كل نفع أو ضر يصل من الغير إلى الغير، ولكن من اتقى في عطائه يسر الله له أمره.
ولقد فقه المسلمون الأوائل هذه المعاني والتزموا بها، وأن موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من وقفه الذي حبسه على منفعة المسلمين لأوضح شاهد على تأصيل معنى العمل التطوعي في التنمية الاقتصادية.
أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنه أن عمر تصدق بمال له على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقال له ثمغ، وكان نخلاً – فقال عمر: يا رسول الله إني استفدت مالاً وهو عندي نفيس فأردت أن أتصدق به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولكن ينفق ثمره). فتصدق به عمر، فصدقته تلك في سبيل الله وفى الرقاب والمساكين والضيف وابن السبيل ولذي القربى، ولا جناح على من وليه أن يأكل منه بالمعروف، أو يوكل صديقه غير متمول به.
وهذا أول وقف في التشريع الإسلامي، وهو من خصائص الشريعة الإسلامية، ولم تكن الجاهلية تعرفه، وقد كان له أثر كبير فيما بعد في دعم التنمية الاقتصادية على مر العصور الإسلامية، حيث اتسعت دائرة الحركة المالية، مع حفظ الأصول المنتجة من التلاشي، مع إيجاد المشروعات الاقتصادية وتوفير فرص العمل، وإن عائد استثمارات أموال الأوقاف لها دور ملموس من الناحية الاقتصادية في خدمة المجتمع وتقدمه، وأنه يتم تنمية أموال الوقف من خلال إيداع أموال الأوقاف الخيرية في البنوك وهى تقدر بالملايين، كما تقدم الوزارة من خلال هيئة الأوقاف المصرية لإدارة أموال الوقف للمساهمة في تأسيس وإنشاء البنوك الإسلامية لخدمة الاقتصاد القومي.
2- دعم التنمية الاجتماعية
كما أن للعمل التطوعي في الإسلام دور جوهري في دعم التنمية الاجتماعية، وذلك عن طريق تنمية المشاعر الإنسانية، ومد الرعاية للمستضعفين وتقديم المسـاعدة للمحتاجين حتى لا تفتك بهم الأزمات.
ولقد كان للعمل التطوعي في تحقيق مفهوم هذه التنمية دور رفيع يعبر عن مدى الترابط القوى بين أفراد المجتمع مصداقاً لقول المعصوم صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً. ثم شبك بين أصابعه).
ويظهر هذا الدور جلياً في صور كثيرة لا سبيل إلى حصرها، ومن أورع هذه الصور التي يمكن أن نذكر طرفاً منها، ذلك العتاب الرقيق لأبي بكر رضي الله عنه، حين أقسم ألا ينفق على مُسطح من أثاثة بعد أن أشترك مع من خاضوا في حق عائشة رضي الله عنه، في حديث الإفك، وكان أبو بكر ينفق على مسطح لقرابته منه، ولفقره وحاجته أيضاً، فلما أقسم ألا ينفق عليه عاتبة رب العزة سبحانه وتعالى بهذا العتاب، يقول الله تعالى: “وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” (النور:22).
فالعلاقات الاجتماعية بين بعض جوانب المجتمع كادت أن تنقطع، وأوشكت النزعة البشرية أن تلعب دورها في هذا الموقف الذي خاض فيه مسطح في عرض عائشة بنت أبي بكر، وهي زوجة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، ولكن القرآن العظيم يرد للقلوب طهارتها وللصدور سلامتها ويرفض أن ينقطع المرء عن العمل التطوعي بحال وذلك من خلال هذا السؤال التقريري: “… أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ…” (النور:22).
كما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج في سواد الليل فرآه طلحة، فذهب عمر فدخل بيتا آخر، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت فإذا عجوز عمياء مقعدة فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ قالت أنه يتعهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عنى الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك طلحة؟ أعثرات عمر تتبع.
كما كان موقف عثمان بن عفان رضي الله عنه من عمله التطوعي لأعظم شاهد على تأصيل معنى التنمية الاجتماعية، لما أخرجه البخاري في صحيحه أن النبي صلى قال: (من يحفر بئر رومة فله الجنة) فحفرها عثمان.
ويذكر ابن حجر في شرحه فيما رواه البغوى: لما قدم المهاجرين المدينة استنكروا الماء وكانت لرجل من بنى غفار عين يقال لها رومة وكان يبيع منها القربة بمد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (تبيعها بعين في الجنة؟) فقال يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقـال: أتجعل لي فيها ما جعلت له؟ قال: نعم. قال: قد جعلتها للمسلمين..
ولاشك أن غاية تلك الأعمال التطوعية بصورها الإنسانية تحفظ على المجتمع ترابطه الاجتماعي وتمنح الفقراء حقهم المشروع في الحياة، وبذلك يسود المجتمع معانى الفضيلة وتتنامى فيه المشاعر الإنسانية.
المصدر: بتصرف يسير عن موقع كنانة أون لاين