رضا زيدان
كيف نشأت اللغة؟
في الإجابة على هذا التساؤل قولان فقط:
** إما بتعليم مباشر من الله ثم كان هذا التوليد البشري الكثير والثري.
** وإما اصطلاحية:بتقليد لأصوات الطبيعة أو بالمواضعة من المجموعة البشرية الأولي.
وهذا المقال عن بطلان الاصطلاح بفرعيه وبالتالي ضرورة التدخل الإلهي.
لماذا تميزت لغة البشر عن لغة الحيوانات؟
“إن كان لدينا الكثير من الأبحاث في قدرة بعض الطيور على تعلم كلمات تصل إلى 500 كلمة، وكذلك الشمبانزي والكلاب وغيرها من التجارب”(1).
هذا نص قوي من كبير علماء اللسانيات تشومسكي وهو يفرق بين اللغة الإشارية بين الحيوانات والتجريد والتحديد للمعاني الذي يتميز به الإنسان.
وفي هذا يقول ديكارت: إذا علّمت غرابًا أن يقول: طاب يومك لسيدته حين تقترب منه، فهذا تعبير عن عواطفه مثل الأمل، فتعليم الكلاب والقردة والخيل مجرد تعبيرات عن خوفها أو أملها أو فرحها، إلا أن استخدام الكلمات المُحددة تحديدًا شديدًا إنما هو مميز للبشر(2).
ما هي اللغة تحديدًا التي تتكلم عنها؟ هل هي البدائية كلغة الأطفال؟ هل هي التي تحتاج لتدخل إلهي؟!
إجابة مُقدمة: بل جميع مراحل اللغة.
المتأمل في كتب علم النفس بعد فتجنشتين وتشومسكي وفريجه يرى أثرهم البالغ في عدم الفصل بين اللغة والفكر، وهي علاقة تكاملية بين الكائن وبيئته حيث اللغة تفهم من خلال نشاط أو بمعنى آخر: الطفل يكتسب الفكر واللغة كأنه يشاهد فيلمًا مكونا من مشاهد حياتيه ثم يبرمج ذلك ليعطي أفلامًا أخرى!، فالطفل يستخلص من أفكار وكلمات (تجريبية) بسيطة مُعقدات من شباك الخيال والاحتمالات والتوليدات بشكل ابتكاري عجيب.
وهذا هو إجابة السؤال: لو كان الاصطلاح البشري هو الواضع للغة، لكان مثل نظيره الحيواني بدون كل هذه الشباك والاحتمالات! وسأضرب بعد قليل مثال العدد إن قلت لماذا لا يكون تطورًا؟
يقول تشومسكي في رده على قول ساندرز بيرس: قدرتنا العقلية تطورت من خلال العمليات العادية للانتقاء الطبيعي، حيث أصبحت قادرة على حل المشكلات التي سنواجهها في عالم التجربة أو الطبيعة.
هذه الحجة ليست قوية. لأننا من الممكن تخيل أن الشمبانزي يخاف فطريًا من الثعابين فيحذر منها لذلك بقي، أما مَن ليس له تلك فسينقرض، لكن في الإنسان: كيف اكتشف النظرية الكمية؟! فلا تقدم التجربة أي إرهاصات للمشاكل التي ستقابلنا في العالم، كما لم تكن القدرة على حل المشكلات عاملا في التطورية النشئوية! لذلك لا نقتنع بهذا التفسير الغيبي لكي نفسر توافق أفكارنا مع الكون، بل إنها مفاجأة محظوظة أن نجد هذا التوافق الجزئي بين أفكارنا والعالم (3).
أجاب بعضهم بأنها ربما تكون قفزات تطورية!
هذه هي مشكلة اللغة البدائية للطفل فالإنسان الأول يجب أن يوجه بسياق وبألفاظ من عالم صانع، وإلا فالمصير الحيواني حتمي.
وتجربة الطفلة التي حبسها أبوها حتي بلوغها الثالثة عشر وأصيبت بقصور فكري شديد بينة الدلالة واحتج بها كثيرًا تشومسكي في كتبه ومنها الكتاب المذكور في الهامش.
تعلم اللغة: فيلم مبرمج من صانع لعبة على حد تعبير فتجنشتين (ثم تعليم الأسماء ثم التفكير داخل الكلمات وبالتالي إنشاء كلمات جديدة داخل القواعد) الجمل الإسمية والفعلية مثلًا وإنشاء أفكار مبتكرة.
قفز الاصطلاحيون من البرمجة إلى تعليم الأسماء مباشرة وذلك لإحساسهم بتعلق اللفظ بالمدلول ربما، وهذا خطأ لأن التعليم الإشاري به مشكلتين وضحهما فتجنشتين في كتابه (بحوث فلسفية) لخصهم كالآتي:
* تعليم الطفل اللغة يشبه تعلم الشطرنج فلا يمكن تسمية الحصان في اللعبة إلا أن يكون عالما ومدركا بقواعد اللعبة من مربعات وحدود الحركات، ثم إن التسمية تتضمن إدراكًا مباشرًا من الطفل لجملة: هذا تسميته كذا!
والتسمية بالإشارة مرحلة متقدمة انظر مثلًا: حين الإشارة لصندوق على شكل مربع لونه أسود، هل يدرك الطفل أن كلمة: صندوق إشارة للشكل أم إلى اللون؟ كيف ذلك؟ ولو تحسست بأصابعك لتفهمه الشكل هذا سيكون في حالات نادرة وكيف سيدرك أن اسمي البسيط وليس المركب وكيف يفهم أن هذا هو الأبسط وليس سواه.
* نأتي للمشكلة الأخيرة في مراحل اللغة وهي الخروج من المؤثر والتجريد للمعاني بل وضعها في أماكن أخرى غير واقعية كالفروض والاحتمالات.
يقول تشومسكي:
إن كفاءة البالغ أو حتي الطفل الصغير كبيرة إلى حد أن علينا أن ننسب إليه معرفة باللغة تتجاوز أي شيء تعلمه، وبالمقارنة مع عدد الجمل التي يستطيع الطفل أن ينتجها أو يفسرها بسهولة، فإن عدد الثواني في العمر ضئيلة بشكل مضحك، فالمعلومات المتوفرة عينة بالغة الصغر من المادة اللغوية التي سيطر عليها بتمكن (4).
لاحظت الآن أثر ترابط اللغة والفكر؟ فمشكلة الاستقراء في التجربة والتعميم من محدودات هي نفسها مشكلة اللغة!
وسأضرب مثالا لذلك بالأعداد وهو واضح أيضًا في التفرقة بين اللغة الإنسانية ومنطق الحيوانات:
يقول تشومسكي:
بُرهن أن بعض الطيور يمكن تعلمها العد حتي العدد 7، وبالتالي القول بأن الطيور يمكن أن تعد، وهذا خطأ لأن أهم خصائص نظام العد أن سلسلة الأعداد يمكن أن تستمر بلا نهاية قلت: تصور اللانهاية بشري محض، تسطيع دائما أن تضيف واحدًا وهذا لا صلة له بحقيقة عدّ الأشياء عند الطيور فهو ملكة مستقلة، فكيف تطورت؟!
إن قلت تطور بالانتقاء فهذا خطأ، فبعض الحضارات ما تزال لا تستعمل ملكة العد، ولا تحتوي لغاتها على تركيب لكلمات عددية غير منتهية، ومن الممكن أن يتعلموا لو وضعوا في بيئة أخري فالملكة موجودة لكنها كامنة.
ومن الحق القول بأنها ملكة لم تستعمل إلا متأخرًا بالمقاييس التطورية. ولا يمكن الزعم بأن الذين استطاعوا العدّ وحل مشكلات الحساب هم مَن استطاعوا البقاء!! الأكثر قربًا أنها جاءت نتيجة لأمر آخر، أتيحت للاستعمال حين تطلبتها الظروف.. تسمية أي نظام لغوي لعالم غير عالم الإنسان بأنه لغة هو من المجاز المُضلل (5).
وأحب أن أختم بهاتين العبارتين أحدهما لديكارت يقول:
لا وجود للأشكال الهندسية في بيئتنا إلا أعدادا بالغة الصغر تمسها حواسنا مسًا وثيقا، فعندما نشاهد في طفولتنا مثلثا مرسومًا على الورق فلا يمكن أن يكون هذا السبب في تصورنا! إن فكرة المثلث كانت فينا من قبل (6).
والآخر لأفلاطون:
يبدأ طلاب الهندسة بالتفكير بعد التسليم جدلا ببعض الأشياء كافتراضات أساسية (7).
________________________________
الهوامش:
(1) العقلانية لجون كوتنجهام – ترجمة محمود الهاشمي – من ص 138 إلى 145 ويراجع الفصل كاملا للاستزادة.
(2) العقلانية لجون كوتنجهام – ترجمة محمود الهاشمي – من ص 138 إلى 145 ويراجع الفصل كاملا للاستزادة.
(3) اللغة ومشكلات المعرفة ترجمة حمزة بن قبلان. ص (222)، ص (235).
(4) العقلانية لجون كوتنجهام – ترجمة محمود الهاشمي – من ص 138 إلى 145 ويراجع الفصل كاملا للاستزادة.
(5) اللغة ومشكلات المعرفة ترجمة حمزة بن قبلان. ص (222)، ص (235).
(6) العقلانية لجون كوتنجهام – ترجمة محمود الهاشمي – من ص 138 إلى 145 ويراجع الفصل كاملا للاستزادة.
(7) أفلاطون، الجمهورية، ص 510.
* يلاحظ أن كل نص لتشومسكي في كتبه يقول كلمة: سبب إلهي يعني سبب غير ظاهر وليس ما هو متبادر، كذلك كلمة فطرة تعني غريزة متطورة من الحيوان.
___________________________
المصدر: مأخوذ من موقع http://www.braheen.com