من الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم أن الخلاف في معاني ألفاظه غالباً ما يكون خلاف تنوع، لا خلاف تضاد، والمتأمل فيما يقوله المفسرون في الألفاظ القرآنية المتعددة المعاني، يجد أنها معان متلازمة…
(مقتطف من المقال)
إعداد/ فريق التحرير
كتاب الله تعالى.. دليلٌ يهدي الحيارى.. ونورٌ يضيء الظُلم.. ونبراس يشع على الكون بهجة وسلاما.. وبالرغم من كل ذلك.. استطاع الشيطان أن يتسلل لبعض الأنفس فأثار فيها الشبهات، وحول طمأنينة تأثير القرآن الكريم عليها لقلق واضطراب وتشكك…
مع كتاب الله تعالى في شهر رمضان.. نحلل الشبهات المختلفة، ونرصد القضايا المتعلقة به، ونقدم الأجوبة عليها…
تقول الشبهة: التنوع في المعاني الدال عليها نفس اللفظ في القرآن؛ دليل تخبط وارتباك يثبت أنه صناعة بشرية، وليس وحيا إلهيا!
ولجواب الشبهة استعنا بمقال للأستاذ الدكتور/ عبد الواحد الخميسي.. يحلل نموذجا لتلك القضية…
من الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم أن الخلاف في معاني ألفاظه غالباً ما يكون خلاف تنوع، لا خلاف تضاد، والمتأمل فيما يقوله المفسرون في الألفاظ القرآنية المتعددة المعاني، يجد أنها معان متلازمة، يمكن اجتماعها في وحدة معنوية متكاملة يتألف منها معنى بلاغي سامٍ، تظهر منه بلاغة القرآن في إيجازه واستخدامه الألفاظ القليلة للمعاني الكثيرة، والأمثلة على ذلك في القرآن الكريم من الكثرة بحيث لا تحصى، وسنورد هنا مثالاً واحداً كأنموذج لتلك الألفاظ ذات المعاني المتعددة، والخلاف المتنوع تتجلى من خلاله دقة القرآن في استعماله اللفظ المناسب للمعاني المتعددة المرادة، هذا الأنموذج هو قوله تعالى خطابا لفرعون موسى “فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً” (يونس:92).
فقد ورد في تفسير لفظ “ننجيك” أقوال منها:
*أن لفظ ﴿ننجيك﴾ من النجاء، وهو الإسراع، والمعنى: فاليوم نسرع بهلاكك.
*وقيل: إنه بمعنى نجعلك كالنجاء، وهو ما سُلخ من الشاة ورُمي به، والمخلفات من كل شيء، والمعنى: فاليوم نلقيك في البحر كالقمامة والمخلفات التي ترمي في البحر.
*وقيل: هو من النجاة، وهي الخلاص، والمعنى: فاليوم نخلصك من البحر بدناً بلا بروح.
*وقيل: هو بمعنى نسلمك والمعنى: فاليوم نخرج من البحر سليماً لم يأكلك شيء من دواب البحر.
*وقيل: ﴿ننجيك﴾ نخرجك من البحر عرياناً ليس عليك ثياب ولا سلاح، وذلك أبلغ في إهانته.
و*قيل: ﴿ننجيك﴾ أي: نخرجك من ملكك وحيداً فريداً.
وورد في لفظ ﴿بِبَدَنِكَ﴾ أقوال أيضاً، منها:
*أن البدن المراد به الدرع القصيرة، ومنه قول كعب بن مالك
ترى الأبدان فيها مسبغات على الأبطال والْيَلَبَ الْحَصِيْنَا
أراد بالأبدان الدروع القصيرة، وباليلب الدروع اليمانية، والمعنى: فاليوم ننجيك مصاحباً درعك، والباء على هذا للمصاحبة، قال ابن عباس: وكانت درعه من لؤلؤ منظوم، وقيل: كان من ذهب، وقيل كان من حديد.
*وقيل: المراد بالبدن الجسد الذي لا روح فيه، قال مجاهد: والمعنى فاليوم ننجيك ببدنك، وبدنك بدل من الكاف في: “ننجيك” أي: فاليوم ننجي بدنك.
ووجه هذين القولين: أن بني إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون غرق، وقالوا: هو أعظم شأناً من ذلك، وسألوا الله أن يريهم إياه غريقاً، فألقاه على نجوة من الأرض (مكان مرتفع) بدرعه حتى شاهدوه.
فكانت تنجيته بالبدن معاقبة له من رب العالمين على ما فَرَط من كفره الذي منه نداؤه الذي افترى به، وادعى القدرة والأمر الذي يعلم أنه كاذب فيه وعاجز عنه.
وخلاصة الأمر: أنه قد ورد في معنى لفظ ﴿ننجيك﴾ ولفظ: ﴿بِبَدَنِكَ﴾ أقوال متنوعة ومتعددة، والناظر في هذه المعاني بتأمل يجدها – بمجموعها – يُكَمِّل بعضها بعضاً، فيتألف منها معنى رائع، يصف حال فرعون من بداية إغراقه إلى النهاية بكل الملابسات الواقعة له أثناء الحادثة، هذا المعنى يمكن تقديره – مجموعاً من كل تلك المعاني المتنوعة – على النحو التالي:
فاليوم نسرع بهلاكك، فنرميك في البحر كالنجا وهو القمامة والمخلفات، فنتركك تغرق، وتُحْدِث دون شعور بالحدث، ونخرجك بدناً بلا روح، سليماً لم يأكلك شيء من دواب البحر، عرياناً ليس عليك ثياب، مصاحباً درعك، ومجرداً من مُلكِك وحيداً فريداً، ونلقيك على نجوة (مكان مرتفع) من الأرض بسبب افترائك وادعائك القدرة بقولك: “أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى” (النازعات:24)، وقولك: “… مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي” (القصص:38)، وبسبب تعنتك وتأخيرك للتوبة حتى مضى وقت قبولها، فَقُلْتَ: “… آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ” (يونس:90)، وذلك لتكون لمن خلفك آية يعتبر بها المعتبرون.
فاجتمعت كل تلك المعاني المتنوعة، واتحدت في معنى متكامل يصف الحادثة وصفا دقيقا من بدايتها إلى نهايتها وتظهر من خلاله بلاغة الإيجاز القرآني في التعبير باللفظ الواحد ذي المعاني المتنوعة المقصودة جملة.
وهناك لطيفة بلاغية من لطائف هذه الآية هي: أن تقديم المعمول على عامله يؤذن بالحصر والقصر والاختصاص، وقد تقدم في هذه الآية ظرف الزمان ﴿اليوم﴾ على عامله وهو ﴿ننجيك﴾ فقيل: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ﴾ وكان الأصل أن يقال: (فننجيك اليوم) فلماذا خولف هذا الأصل وقدم المعمول على عامله؟
والجواب والله أعلم: أنه قُدم؛ ليؤذن بقصر نجاة فرعون على الدنيا فقط، ليكون آية وعبرة، والتقدير: فما ننجيك ببدنك إلا في اليوم، أي: في الدنيا، وأما في الآخرة فقد قال تعالى عن فرعون وآله: “وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ” (غافر:46) أي: أن هذا البدن المُنَجَّي في الدنيا للعبرة والاتعاظ سيعذب في جهنم أشد العذاب يوم القيامة، ومع هذه النجاة في الدنيا بالبدن، فقد ذكر القرآن أنه يعرض على النار غدواً وعشياً وكيفية عرضه على النار أمر ليس لنا أن نتصوره؛ لأنه من الغيب الذي استأثر بعلمه رب العزة والجلال.
وقد ظهر لنا وجه الإعجاز من نجاة الجسد الفرعوني، تلك النجاة التي أخبر بها القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرناً من الزمان على لسان نبي أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة بقوله: “فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً” (يونس:92).
المصدر: بتصرف يسير عن موقع جامعة الإيمان