لا شك أن من أهم أهداف العلم.. التوصل إلى كيفية ظهور الأشياء في الوجود وكيفية عملها؛ فالعلم يسعى للبحث عن الحقيقة حتى وإن خرجت عن التفسيرات المادية.
لقد كان هذا هو منظور العلماء الكبار في التاريخ، مثل الزهراوي وابن الهيثم ونيوتن وأينشتين، ولم ينحرف هذا المنظور إلاَّ في العقود الأخيرة، بعد أن أصبح الكثيرون يدَّعون أن “المنظور المادي هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة”، ولا شك أن هذا قول منافٍ للعلم! لأنهم لم يختبروه بأسلوب علمي، ولا حتى بالمنطق!.
إن التعريف الذي صاغه العلماء المحدَثون للعلم يستوعب الداروينية ويطرد ما سواها من ساحته! لذلك حرص أنصار التصميم الذكي على أن يحفظوا مفهومهم داخل حدود عالم الفيزياء حتى لا يدفعهم الآخرون إلى عالم الميتا فيزياء، ومن ثم ركزوا طرحهم على تساؤل واحد، هل وراء هذا الوجود والحياة وتنوع الكائنات والعقل الإنساني ” تصميم Design أم أن “الصدفة والعشوائية” قادرتان على إيجاد هذه الموجودات تلقائياً؟ ويطالب أنصار هذه المدرسة بأن تُطرح قضيتهم الأساسية (تصميم أم لا تصميم) للتمحيص العلمي. ولا تطرح هذه المدرسة للبحث التساؤل عن مصدر هذا التصميم، حتى لا يصبح التصميم الذكي بحثاً فلسفياً دينياً يخرج عن حدود العلم كما رسمها العلماء.
أصلُ الطبيعة
ويستند أنصار التصميم الذكي إلى أن المنهج العلمي يكتفي في بحثه بالسبب المباشر للظاهرة أو السبب السابق له، بينما ينبغي أن يمتد البحث إلى السبب الأول. فإذا وجد علماء الحفريات مثلاً إناءً في منطقة ما، بحثوا عن الحضارة وعن الإنسان الذي صنع هذا الإناء، ولا يخوضون في مصدر هذه الحضارة ومنشأ هذا الإنسان. كذلك عند البحث في سقوط الأجسام، يقف العلم عند قانون الجاذبية ولا يبحث في المصدر الأعلى لهذا القانون.. وبالمثل، عندما يتحدث الداروينيون عن فاعلية الطبيعة وعن الانتخاب الطبيعي، فهم لا يبحثون عن أصل الطبيعة ولا مصدر قانون الانتخاب الطبيعي.
إن إثبات خطأ التصميم الذكي كمفهوم علمي يتطلب إيجاد تفسير لمصدر الكم المعلوماتي الهائل الذي تحمله الشفرة الوراثية، وكذلك إثبات إمكانية بزوغ نظام معقد غير قابل للاختزال دون اللجوء إلى الذكاء، وقد تمت هذه المحاولات بالفعل وثبت استحالة أن تقوم الطبيعة بذلك.
وبالرغم من ذلك، أعلنت “الأكاديمية القومية للعلوم National Academy of Science” بالولايات المتحدة الأمريكية أن مفهوم التصميم الذكي ليس علماً! إذ لا يمكن إخضاعه للتقويم بالطرق العلمية، فرد مايكل بيهي[1] لهم الصاع صاعين ووصف موقف علماء الأكاديمية بأنه مثير للسخرية، إذ أنفقوا سنوات طويلة من أعمارهم في محاولة إثبات خطأ مفهوم التصميم الذكي، ألا يعني ذلك أنه خاضع للتقويم العلمي؟!
التصميم الذكي في المحكمة
بالرغم من أن العلماء الماديين يقرون بوجود الذكاء في الطبيعة، فإنهم يرفضون الإقرار بمفهوم “التصميم الذكي”! إنهم يتخوفون من الخطوة التالية، وهي الإقرار بـ “المصمم الذكي” ثم الإقرار بالديانات، وما قد يترتب على ذلك من عودة الظلام الذي سيطر على أوروبا في العصور الوسطى. ومن أجل تحاشي كل هذه التوابع، يختار الماديون من تعريفات العلم ما يحفظ القول بالتصميم الذكي خارج نطاقه! فهل هم مصيبون فيما اختاروه من تعريفات؟
للإجابة على هذا التساؤل، فلنتأمل القضية الشهيرة التي رُفعت عام 1982، في ولاية “آركانساس Arkansas” بالولايات المتحدة، والتي دارت حول إمكانية تدريس البيولوجيا في المدارس من خلال منظور التصميم الذكي بجانب تدريسها من خلال المنظور الدارويني.
لقد حَكَم القاضي بأن منظور التصميم الذكي منظورٌ ديني وليس منظورا علمياً، ومن ثم لا ينبغي تدريسه في المدارس. فهل كان القاضي مصيبا في حكمه؟
في حيثيات الحكم، حدد القاضي سمات العلم وقارنها بسمات منظور التصميم الذكي، وخرج بحكمه السابق. ونعرض مقارنة القاضي من خلال الجدول التالي:
م |
سمات العلم والقضايا العلمية |
سمات منظور التصميم الذكي |
1- |
الظواهر العلمية خاضعة للملاحظةObservable |
غير خاضع للملاحظةUnobservable |
2- |
يتعامل مع الظواهر والأشياء المتكررةRepeatable |
يتعامل مع موقف لن يتكرر |
3- |
الظواهر العلمية خاضعة للاختبارTestable |
غير خاضع للاختبارUntestable |
4- |
يدرس عالم الطبيعةNatural |
يدرس ما وراء الطبيعةSuper-Natural |
والآن مع نظرة تحليلية لهذه السمات لنرى ما في هذه المقارنة من عَوَار:
-
الخضوع للملاحظة :
كثيراً ما يقبل العلماء تصورات لا تخضع للملاحظة على الإطلاق (نظرية الأوتار[2]) إذا كانت قادرة على تفسير الظواهر العلمية، كذلك اعتبر الدراونة أن التطور من نوع إلى نوع Macro Evolution علم، بالرغم من أنه غير خاضع للملاحظة! ومن ثَّمَّ فالخضوع للملاحظة لا يعتبر شرطاً للقضية العلمية.
-
تكرار الظاهرة:
لا ينبغي اعتبار هذه السمة شرطاً للظاهرة العلمية، فالعلماء يعتبرون الكثير من الظواهر غير المتكررة (وغير القابلة للتكرار) ظواهر علمية، كالانفجار الكوني الأعظم وبداية الحياة على الأرض.
-
الخضوع للاختبار:
استبعد القاضي أن يكون مفهوم التصميم الذكي علماً بدعوى أنه غير قابل للاختبار، وبالرغم من استشهاده بقول الدراونة إن هذا المفهوم ثبت خطأه بعد أن تم اختباره! كيف يكون المفهوم غير قابل للاختبار، ويكون قد تم اختباره بالفعل؟!.
-
الطبيعة وما وراء الطبيعة:
يدرس مفهوم التصميم الذكي أشياءً طبيعية مثل (DNA) وقوانين الطبيعة، أما ما هو وراء الطبيعة فهو الإله الخالق الذي لا يطرحه مفهوم التصميم الذكي للبحث، فهذا مجال آخر.
لقد اختاروا تعريفات على المقاس
لقد وضع القاضي في قضية آركانساس العربة قبل الحصان! فبماذا ننتظر إذا انطلقنا في حكمنا من تعريف للعلم يقصره على الأسباب الطبيعية؟ لا شك أننا إذا بدأنا بحثنا بأن العلم لا يبحث إلاَّ في المادة والطاقة فلن نحكم إلاّ برفض ما سواهما. لقد اختار القاضي من تعريفات العلم تعريفاً يفرض علينا النتيجة، ويسمي هذا المنهج المعيوب بـ “المنطق الدائري Circular Reasoning”،
وللحديث بقية.. يتبع
الهامش:
[1] – (Michael Behe) (ولد في 18 يناير 1952) هو عالم كيمياء حيوية أمريكي، مؤلف، و مناصر للتصميم الذكي. يشغل حاليا منصب أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة ليهاي في بنسلفانيا و كزميل بارز في مركز للعلوم والثقافة تابع لمعهد ديسكفري.
[2] – نظرية الأوتار أو نظرية الخيطية (بالإنكليزية: String Theory) هي مجموعة من الأفكار الحديثة حول تركيب الكون تستند إلى معادلات رياضية معقدة.
_______________________
المصدر: بتصرف يسير عن كتاب/ خرافة الإلحاد، د. عمرو شريف، مكتبة الشروق الدولية، ط2، 2014، ص 239:236.