أقرَّ الإسلام الحرب، وما كان له أن يفعلَ غير هذا لمصلحة البشر، إن الحرب جريمةٌ مرذولة منكورة يوم تكون عدوانًا على ضعيف، وحجبًا لحقه، ويوم تكون غمطًا للحق وإطفاءً لنوره…
(مقتطف من المقال)
الكاتب/ أ.د. عمر بن عبد العزيز قريشي
وسطية الإسلام هي إحدى الخصائص العامَّة له، وهي إحدى المعالم الأساسية التي ميَّز الله بها أمته عن غيرها:
قال تعالى:”وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” (البقرة:143)؛ فهي أمة العدل والاعتدال، التي تشهد في الدنيا والآخرة على كل انحراف يمينًا أو شمالاً عن خط الوسط المستقيم (1).
إن بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- كانت ميلادًا للحق في أَبْهى صورِه، وأزهى أشعتِه، وكان شروق هذا الحق إيذانًا بزوال الحيرة السائدة، والشقاء المخيم؛ كانت هذه البعثة رحمة عامة، ونظرة سريعة على ما قدَّمه الإسلام للعالم تُرِينا أبعاد هذه الرحمة، والمدى الواسع الذي تعمل فيه.
كان الناس -ولا يزالون- بين كافر ينكر الألوهية البتة، أو مؤمن معتل الفكر في تصوُّره للألوهية وفي علاقته بالله الكبير، وما أغرب الطرفين المتناقضين!
وقد جاء الإسلام يعلن عن إله واحد، خلق كل شيء وتنَزَّه عن مشابهة أي شيء “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ* لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” (الشورى: 11، 12)، والتوحيد المطلَق هو الحق الذي أكد عليه الإسلام وبسط آياته في كل أفق.
وسطية الإسلام.. والعلاقة الوحيدة الصحيحة
والعلاقة الوحيدة الصحيحة بين الناس ورب الناس هي إسلام الوجه له، وإحسان الاستمداد منه، والاعتماد عليه، واعتبار الدنيا مهادًا للآخرة، وجهادًا لكسبها.
ولكن جمعًا غفيرًا من الخلائق عاش على الأرض مقطوع الصلة بالله، لا يعرفه البتة، أو يعرفه معرفةً مشوَّهة رديئة وناقصة، وهذا الكفران حَرَم ذويه من رؤية الحق، والانتفاع بهُداه، والظَّفَر ببركته، فكيف يقضون على الأرض أعمارهم، ثم كيف يلقون بعد ذلك ربَّهم؟
أما الآخرة، فقد خسروها، وأما الدنيا، فإن ما ينالون منها -قلَّ أو كثر- لا غناء فيه.
لقد كانت بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- إنقاذًا من هذا الإلحاد وعواقبه الشائنة؛ لأنها عرَّفت الناسَ بالله على أصدق وجه، وبأقوى دليل (2).
ولم أعرف -فيما قرأت- بشرًا مثل محمد، وجَّه الفكرَ الإنساني إلى العلم بالله، وملأ القلب الإنساني بالخشوع لله، ثم عن طريق العلم والأدب شرح قضية الوجود، ووظيفة المرء في الحياة، شرحًا عامرًا بالصدق والجمال، تلك أولى آيات الرحمة العامة التي بُعث بها صاحب الرسالة العظمى، يلي ذلك العمل والسلوك، فإن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- الإنسان الكبير جاء إلى الأجناس كافَّة بدين:”يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ” (الأعراف:157).
وهذا هو منهج وسط جميل، ففي الناس إباحيون يصطادون الشهوات حيثما لاحتْ لهم، ولا يحسون طعم الحياة إلا من خلال الرغبات المجابة، والغرائز المرسَلة.
وفي الناس رُهْبان كظموا على طبائعهم، وحمَّلوها ما لا يطاق، فحملتْ وهي كسيرة مقهورة، ونحوهم، وإنه لشيء مُحزِن أن تذهب أجيال من الناس فداءَ وهمٍ لا أصل له ولا حقيقة.
لقد جنَّبَنا نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- هذه الكارثة، عرَّفنا كيف نحيا بعد أن عرَّفنا لمن نحيا، وأن الله لم يَفرِض علينا عنتًا، ولم يجشمنا شططًا “مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُم” (النساء:147)، “وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ” (النحل:30).
وقد يكلف بالجهاد الشاق، لكنه واضح الغاية، معقول الدوافع، يستميت المرء فيه؛ لتكون كلمة الله هي العليا، ولتكون حقوق الناس وأموالُهم وأعراضهم ودماؤهم مصونةً مقدَّسة.
فإذا استشهد أحدٌ في هذه السبيل، فإنه لم يمتْ فداءَ وهمٍ، بل مات فداء الحقيقة العليا، وكسب باستشهاده ما في الأرض والسماء.
الرحمة العامة
والمبادئ التي أقرها الإسلام لضبط المجتمعات أساسُها الرحمة العامة، وتوكيد المصلحة الحقيقية للأمة، وشرائعُ الحدود والقصاص التي كتبها على العباد بعضُ مظاهر هذه الرحمة (2)، وتتجلَّى الرحمة التي اقترنت بها رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- في أسلوب التعامل الذي وضعه الله -تعالى- للناس بعضهم مع بعض؛ فإن التفاوت بين الناس بعيد الشُّقَّة، مع أنهم من أبوين اثنين، فإن اختلافهم في المواهب الفطرية، والأوضاع الاجتماعية -مثارُ امتحان بالِغ القسوة؛ ولذلك قال جل شأنه: “وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا“(الفرقان:20).
هناك الغني والفقير، والعالم والجاهل، والقوي والضعيف، والمرموق والخامل، والأبيض والأسود… إلخ، فعلامَ تدوم العلائق بين أولئك جميعًا؟ لقد قرَّر الإسلامُ ابتداءً أنه ما من إنسان إلا وهو مختبَر بما أوتي من مواهبَ وأحيط به من ملابسات، وإن إرادته للتسامي أو إيثاره للهبوط هما اللذان يقرران عند الله مصيرَه “كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ” (الطور:21).
فالتصرف في المال -لا المال نفسه- هو الذي يحدِّد مستقبل الإنسان، والنيةُ في طلب العلم وتعليمه -لا العلم نفسه- هو الذي يحدِّد مكانته، ومعنى ذلك أن الغنِيَّ لا بد أن يُعِين الفقير، وإلا سقط، وأن العالِم لا بد أن يُرشِد الجاهل، وإلا هوى، فمَن حبس فضل ذكائه وثرائه عن الناس، زلَّ عن درجة التقوى، ولم ينفعه ما كسب في الدنيا من مالٍ وجاهٍ، وعلى الطرف الثاني أن يسعى للخير ويستكمل الرشد دون حقد أو غضاضة؛ (وليس منا من لم يوقِّر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه) (4).
فروع شجرة واحدة
والناس -في منطقة الإسلام- فروعُ شجرةٍ واحدة، وأساسُ الصلة بينهم التعارفُ والتعاون، والله -جل شأنه -برحمتِه مع الوالد حتى يوفِّر له البر، ومع الولد حتى يضمن له الحياة والتربية، ومع الحائر حتى يسوقَ له الهداية، والدنيا دار اختبار، وللاختبار مطالبه ومظاهره وظروفه، ولكن الإسلام في حومة هذا الامتحان يذكِّر الناس بضرورة التراحم بينهم، وكبحِ ما تخلفه الأَثَرة من قسوة في القلب، وبلادة في الحس، ألا ترى كيف أعلن الله مغفرتَه لبَغِيٍّ سقتْ كلبًا كان يلهث من شدة العطش؟!
فإذا كانت الرحمة بدابة هينة قد نالت من الله -تعالى- هذا الرضا، فما بالك بمَن يرقُّ للبشر، ويخفف آلامهم، ويفرج كرباتهم؟!
وقد أقرَّ الإسلام الحرب، وما كان له أن يفعلَ غير هذا لمصلحة البشر، إن الحرب جريمةٌ مرذولة منكورة يوم تكون عدوانًا على ضعيف، وحجبًا لحقه، ويوم تكون غمطًا للحق وإطفاءً لنوره.
أمَّا يوم أن تكون كسرًا للكبرياء، وقمعًا للظالمين، وحسمًا لشرورهم، فهي نجدة وإسعاف، وتأديب للطغاة، والقتالُ هنا لا يزيد مفهومه عن التنكيل بقطَّاع الطرق، فهو من معاني الرحمة والأمن التي يفتقر إليها العالَم (5)؛ ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: (أنا نبي الرحمة ونبي الملحمة)(6).
الهوامش:
[1] الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، يوسف القرضاوي، ص 24، الدوحة الحديثة، سنة 1402هـ.
[2] ركائز الإيمان، محمد الغزالي، ص 212: 214، بتصرف، ط 5، دار الاعتصام، 1978م.
[3] ركائز الإيمان، ص 214، 215 بتصرف.
[4] رواه الترمذي في البر، باب ما جاء في رحمة الصبيان (ج 8، ص 107)، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وقد روي من غير هذا الوجه، ورواه أحمد ج1، ص (257).
[5] ركائز الإيمان، ص (216، 217) بتصرف.
[6] رواه أحمد ج4، ص 395 بتمامه، وقال عنه الهيثمي (ج 8، ص 284): رواه أحمد والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح، غير عاصم بن بهدلة، وهو ثقة، وفيه سوء حفظ.
___________________________________
المصدر: كتاب “سماحة الإسلام” للكاتب