قبل أن نتحدث عن الحضارة الإسلامية تحديدا علينا أن نوضح أن الحضارة بشكل عام لابد وأن تكون ذات طابع إنساني، حتى تتصف بالرقي المادي والرقي المعنوي على حد سواء، والمراد بالرقي المادي للحضارة: مظهرها المتمثل في الصناعة والزراعة والتجارة، وأصناف الفنون، وأنواع العلوم.
أما الرقي المعنوي: فهو المبادئ الروحية، والقيم الخُلقية، والمفاهيم الفكرية، التي تعبِّر عن معتقدات الأمة وسلوكها وفلسفتها في الحياة. ولا بد أن يكون هذا وذاك تعبيراً عن مقاصد إنسانية سامية، وتجسيداً لأهداف خلقية نبيلة.
وفيما يتصل بالحضارة الإسلامية فإنها قد بلغت الذروة العليا في القرون الوسطى وصارت رائدة الحضارات للعالم كله، بل كان الجميع يرتشف من معينها الصافي نظراً لما فيها من نزعة إنسانية تقوم على منهج للتربية القومية لكل فرد مسلم. وهذا المنهج في إصلاح الفرد واستقامته يقوم على ركنين أساسيين:
الأول: تربية الضمير داخل النفس
والآخر: الاستقامة على شريعة الله سبحانه وتعالى
وتوضيح ذلك ما يلي:
الأول: ما الذي يربِّي الضمير داخل الإنسان؟
الجواب: أن العقيدة الربانية، التي تستشعر عظمة الله وخشيته في السر والعلن، إذا ترسخت في النفس البشرية، ولَّدت الشعور بالمراقبة لله تعالى، وولَّدت الشعور بالمسئولية، وكل ذلك يدفع بالنفس الإنسانية لأن تحاسب نفسها قبل أن يحاسبها غيرها، وهذا من شأنه أن يقوي الإرادة الذاتية لدى المؤمن، فلا يكون أسيراً لشهواته، ولا عبداً لأطماعه وأهوائه، بل ينضبط بحساسية التقوى ووازع الإيمان، ويتجه نحو إتقان العمل محتسباً أجره عند الله تعالى.
الثاني: الاستقامة على شريعة الله
وتلك أقصى ما يتمناه المؤمن، إذ لا صلاح له إلا في الأخذ بالشريعة التي أنعم الله بها عليه.
- ومعنى الاستقامة هنا: أن يلتزم المؤمن بمنهج الإسلام في: العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات.
وللجانب الإنساني في الحضارة الإسلامية مجموعة من المبادئ التي سنورد أهمها فيما يلي:
أهم المبادئ التي تقوم عليها النزعة الإنسانية في الحضارة الإسلامية:
مبدأ لا إكراه في الدين:
إن الإكراه يقهر النفس الإنسانية ويُذلها، ويحطّم الشخصية، ويزرع الاحقاد والضغائن في القلوب، وينزع إلى النفور وردود الأفعال حين تسنح الظروف، ويسيء إلى سمعة الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج، ويجعل إيمان المكرَه غير مقبول عند الله سبحانه وتعالى. من أجل ذلك كانت الحكمة الإلهية بعدم الإكراه: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ“(البقرة:256)، وقوله تعالى: “أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ“(يونس:99).
مبدأ التعارف بين الشعوب:
إن في التعارف إعطاء القدوة بالإسلام في شخصية المسلم، والتعرف على حضارات الأمم والشعوب والانفتاح عليها، ودعوة الناس بالحجة والإقناع إلى الإسلام الحق، وإظهار التسامح الإسلامي في التعامل مع غير المسلمين. وكل هذا يوضح حكمة التوجيه الإلهي حين يقول:”يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ“(الحجرات:13).
مبدأ العلاقات بين الدول:
من التحضر أن يكون هناك علاقات بين دول المسلمين والدول الأخرى، فالدولة مثل الفرد، لا يمكن لكليهما أن يعيش بدون صداقة أو حسن جوار. ولكن بشرط ألا تكون الدول الأخرى تقاتل المسلمين في الدين، أو تخرجهم من ديارهم، أو تتعاون مع المعتدين على ذلك. يقول الله سبحانه وتعالى في تقرير هذا المبدأ: “لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ“(الممتحنة:9،8).
مبدأ تحقيق العدالة للجميع:
لقد رفع الإسلام راية العدل في كل مكان، مع الصديق والعدو، قال تعالى: “وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى“(المائدة:8).
وتقرر الآية الكريمة أن العدل واجب على المسلمين فيما بينهم، وفيما بينهم وبين الأعداء، ولا يجوز أن تكون العداوة والكراهية سبباً لوقوع المسلمين في الظلم مع غير المسلمين، فهذا العدل هو الأقرب إلى التقوى.
مبدأ الجنوح للسلم:
وهذا أصلٌ مقرر في قوله تعالى: “وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” (الأنفال:61)
فإذا مال العدو أثناء القتال إلى المسالمة والمصالحة، فعلى المسلمين أن يكفوا عن قتاله، ويرفعوا أمامه راية السلام دون مراوغة أو مخادعة.
مبدأ المعاملة الرحيمة في الحرب:
وهذا المبدأ يقرره قول الله تعالى: “وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ” (البقرة:190).
- فلا يجوز للمسلمين أن يقاتلوا إلا من قاتلهم من الرجال، أما الذين لا يقاتلون المسلمين من النساء والأطفال والشيوخ والعاجزين، فلا يحل للمسلمين أن يقاتلوهم أو يقتلوهم، إلا إذا ظهر جهد ومشاركة في الحرب ضد المسلمين.
- وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً، ثم يقول: “اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، اغزوا ولا تغُلٌّوا (لا تخونوا في الغنيمة)، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا مدبراً..“
وقد أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه بمثل هذه الوصية أسامة بن زيد، حين وجهه إلى قتال الروم. وهذه الوصايا من أعظم المظاهر الحضارية التي لا تدانيها قوانين الدول المتقدمة في العصر الحديث.
مبدأ الإحسان إلى الأسرى
والإحسان إلى الأسرى يكون بالمنّ[1] أو الفداء، لقوله تعالى:”حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ“(محمد:4).
مبدأ المحافظة على العهود والمواثيق:
إذا كان بين المسلمين وبين غيرهم معاهدة فعلى المسلمين أن يفُوا بذلك حتى نهاية المدة المتفق عليها، فإذا بدا من هؤلاء المعاهدين ما يشير إلى الخيانة والاحتيال على نقض المعاهدة، فلا تحل محاربتهم إلا بعد نبذِ عهدهم إليهم، وإعلان هذا النبذ، بحيث يكون معلوماً لدى الطرفين، قال تعالى: “إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ“(التوبة:4). وقوله تعالى: “وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ” (الأنفال: 58)
إن الإسلام وهو يقرر شرعية المعاهدات والمواثيق، إنما يريد سلاماً وأماناً واستقراراً، ليس للمسلمين وحدهم، ولكن لكل أجناس الأرض.
مبدأ محاسنة الذميين:
المراد بالذميين: اليهود والنصارى الذين يعيشون في الدول الإسلامية، ويلحق بهم المجوس والصابئة. فهؤلاء إن رضوا أن يدخلوا في ذمة المسلمين وعهدهم وأن يعيشوا في ديارهم، فعلى المسلمين أن يحاسنوهم، وأن يؤدُّوا لهم حقوقهم.
وأبرز تلك الحقوق ما يلي:
أ- المحافظة على أموالهم ودمائهم وأعراضهم، وعدم ظلمهم أو انتقاصهم أو تكليفهم فوق طاقتهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: “من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ شيئاً منه من غير طيب نفسه، فأنا حجيجه يوم القيامة” (أبوداود).
ب – يجب أن يُتركوا أحراراً في معابدهم وأحوالهم الشخصية، لقوله تعالى: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ” (البقرة :256).
وكتب أحد الرعية إلى عمر بن عبدالعزيز يقول” ما بال الولاة يتركون أهل الذمة يشربون الخمر، ويأكلون الخنزير، ويتَّجرون بها؟، فأجابه عمر :”أمر رسولنا أن نتركهم وما يدينون، وإن أنت إلا مُتَّبع ولست بمُبتّدِع“.
- يجب أن يراعى لهم حسن الجوار، وعدم الاعتداء، وحق ممارسة العبادة، ومما جاء في عهد النبي لنصارى نجران:”أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصليبهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم. إنه لا تُسكَّنُ كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم، ولهم عليَّ ذمة الله وذمة رسوله“.
- يجب حمايتهم من كل اعتداء، سواء أكان داخلياً أم خارجياً، مقابل ما يدفعون من جزية.
- كذلك يجب إسقاط الجزية عن الأعمى والمريض المزمن والرجل العاجز والشيخ الكبير.
- ولا تُضرب الجزية على نساء أهل الكتاب، ولا على صبيانهم حتى يبلغوا، ولا على عبيدهم، ومجانينهم، وأصحاب الصوامع من الرهبان.
مبدأ العفو عند المقدرة:
لقوله تعالى: “..فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ..” (المائدة:13)، وقوله سبحانه وتعالى: “خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ” (الأعراف:199)
وقد عفا النبي عن أهل مكة يوم الفتح، مع أنهم أسرفوا في إيذائه، وأخرجوه من بلده، وتآمروا على حياته.
هذه هي أهم مظاهر النهضة ومبادئ الحضارة الإسلامية، التي علينا أن نطبقها وأن نفاخر بها العالم كله الآن، ولا سيما الدول العظمى التي تدَّعي احتكار النهضة والتحضُّر؛ فعلى المسلمين اليوم أن يعودوا إلى هذه المبادئ التي سنها لهم ربهم سبحانه وتعالى حتى يكون لهم إسهامهم في الحضارة الحديثة.
الهامش:
[1] – المن عليهم بإطلاق سراحهم.
____________________________________
المصدر: كتاب الرد على الشبهات والافتراءات الموجهة ضد الإسلام، أ.د. أحمد شوقي إبراهيم، القاهرة، دار نهضة مصر، ج1، ط2، نوفمبر 2012، بتصرف كبير من ص78:ص80