الأشخاص في القصة القرآنية رموز معبرة عن مواقف ومعاني ودلالات، ولا تذكر الشخصية إلا في مواطن التعبير عن معاني معينة دالة على الأحداث…
محمد فاروق النبهان
ويُسدل الستار من جديد على قصة موسى وهو يمشي في طريقه إلى مدين، يبحث عن الهداية ويردد: “… عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ” (القصص:22)…
لمراجعة الجزء الأول من المقال.. يمكنكم الضغط على العنوان التالي:
القصة القرآنية.. روعة الإعجاز في دقة الإيجاز! (الجزء الأول)
ومن جديد يُرفع الستار عن مشهد مختلف…
أمة من الناس يسقون.. وامرأتان تذودان أغنامهما عن الماء…
“… قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ” (القصص:23)، فسقى لهما.. وتولى إلى الظل.. وأخذ يدعو ربه: “… رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ” (القصص:24)
وفجأة جاءته إحداهما تمشي على استحياء.. “قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ” (القصص:25).. وقالت إحداهما: “… يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ” (القصص:26).
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ بدأت مرحلة جديدة في حياته، (وعد الله) بأنه سيكون من المرسلين…
ومن بعيد.. آنس موسى من جانب الطور نارا، “… فقال لأهله امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ” (القصص:29).
“فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ…” (القصص: 30-31)، وأحس موسى بالخوف والهلع، ولا يمكن للبشرية في لحظة الالتقاء بالحقيقة الإلهية ممثلة في مظهر الخروج عن القوانين الطبيعية إلا أن تخاف والخوف هنا أمر حتمي، فالإنسان يخاف من المعجزات ويخاف من الخوارق ويخاف من الغيب، ولهذا جاءت المعجزات في نطاق ضيق لكي يشعر الإنسان بالأمن والاطمئنان، وارتبطت المعجزة وهي العصا في الآية بقوله تعالى: “… إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ” (القصص:30)، لكي تكون المعجزة مؤكدة لكل ما سمعه موسى من نداء، ولولا المعجزة الحسية لكان النداء أقل أثرا في النفس، وهنا تأتي العناية الإلهية.. يتجدد النداء و فيها تأكيد على الأمن.. “… يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ” (القصص:31).
ولا بد من معجزة حسية تؤكد الإحساس بالأمن وتعمقه وتغذيه وتقويه وتدعمه، لكي يرتد إليه الشعور بالاطمئنان ولكي يزول عنه الخوف.. وهنا جاء الأمر الإلهي من جديد..”اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ…” (القصص:32).. “… وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ… ” (القصص:32).
معجزة واضحة لموسى، لكي يطمئن.. يده يُدخلها في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء.. ثم تعود ثانية كما كانت.. هذا برهان من الله، وهي بداية التكليف..
وخاف موسى.. كيف يمكنه أن يواجه فرعون و ملأه.. وارتفع صوته المتهدج الوجل المتهيب.. “قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ” (القصص:33).. “وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ” (القصص:34).
وجاء الجواب مطمئنا وواعدا وضامنا و متعهدا.
“قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ” (القصص:35).
و ذُهل قوم فرعون أمام الآيات البينات، وقالوا: ما هذا إلا سحر مفترى، ووقف فرعون أمام الملأ من قومه خائفا حائرا مندهشا متكبرا ولابد له من أن يقول شيئا أمام معجزة موسى.. “وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ” (القصص:38).
وتتوقف القصة القرآنية أمام ظاهرة فرعون، ظاهرة الاستكبار في الأرض، ظاهرة الطغيان والبغي، ظاهرة الغفلة عن الحق، ولابد من الحكم والعقاب والعبرة..
ويتوجه الخطاب من جديد إلى البشرية في كل عصر وفي كل مصر ويأتي القرآن بهديه وإرشاده، لكي يعلم الناس الدروس من الماضي فالتاريخ أحداث وقعت، والغاية من رواية الرواية التاريخية هي العبرة والاستفادة والتعلم، وعدم الوقوع في نفس الأخطاء فالوقائع تتجدد أسبابها، والعاقل من يحسن الفهم، ويتعلم من القصة التاريخية الحكمة ويأخذ العبرة…
“وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ. فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ. وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ. وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ“(القصص: 39- 42).
أشخاص القصة القرآنية.. قصة موسى وفرعون نموذجا…
والأشخاص في القصة القرآنية رموز معبرة عن مواقف ومعاني ودلالات، ولا تذكر الشخصية إلا في مواطن التعبير عن معاني معينة دالة على أحداث القصة، ولا تراد الشخصية بذاتها فالقرآن ليس قصة ولا رواية تاريخية، وليس ذلك من أهدافه، ولهذا اقتصرت الرواية على ما يدل على الهدف، وتركزت العبارات حول ذات الحدث المراد، والجزئيات الخارجة عن نطاق الهدف من القصة ليست مرادة وليست ضرورية، ولهذا جاءت القصة في القرآن موجزة، بآيات قليلة، وبإشارات واضحة، وأشخاص القصة القرآنية كما وردت في قصة موسى وفرعون، انحصرت في موسى وفرعون وأم موسى وهناك أشخاص عابرون في القصة القرآنية لا يذكرون إلا في معرض الإشارة إلى دورهم كالرجلين الذين يتقاتلان، هذا من شيعته، وهذا من عدوه، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه.
وإغفال الأسماء للدلالة على أنها ليست مهمة في القصة وليست دالة، ويكفي أن تشير القصة القرآنية إلى وصف يحدد دور ذلك الشخص ومكانه: “هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ“، “فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ“، وأحيانا لا تذكر الأوصاف، ويخفى الخبر أو الموقف لأنه المراد، كما في قوله تعالى: “وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى“، وليس ذلك الشخص مهما لكي يذكر، هل هو من شيعته أو من عدوه، يكفي أنه ناصح، نقل خبره وأدى مهمته وانتهى أمره.
وفرعون في القرآن دالة على معنى السلطة الظالمة الطاغية المستبدة التي تدعي الألوهية، وتستغل سذاجة الشعب لإذلاله وفرض الطاعة عليه، وجاءت لفظة فرعون في القرآن أربعا وسبعين مرة في سبع وعشرين سورة من سور القرآن، وأكثر ما وردت فيه في سورة الأعراف وسورة القصص وسورة غافر..
وارتبط اسم فرعون وملأه بأوصاف ذكرها القرآن، وأهمها ما يلي:
أولا: الكفر بآيات الله في قوله تعالى: “كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ” (الأنفال: 52).
ثانيا: التكذيب بآيات ربهم في قوله تعالى: “كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ” (الأنفال: 54).
ثالثا: سوم الناس سوء العذاب في قوله تعالى: “نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ” (البقرة: 49).
رابعا: العلو.. في الأرض في قوله تعالى: “إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً” (القصص: 4).
خامسا: الطغيان.. في قوله تعالى: “اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى” (طه: 24).. وجاءت في عدة أماكن في القرآن.
سادسا: الفسق.. في قوله تعالى: “فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ” (النمل: 12).
سابعا: ادعاء الألوهية في قوله تعالى: “وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي” (القصص: 38).
وهذه الصفات التي وصف القرآن بها فرعون وقومه جعلت فرعون يمثل شخصية المستبد الطاغي المعاند الذي يكفر بآيات الله ويكذب بها، ويدعي لنفسه الألوهية والملك والسلطان، وسيظلم ويقتل ولذلك اتجهت دعوة الأنبياء والرسل لمقاومة هؤلاء الطغاة، لتحرير الإنسان الذي وقع عليه الظلم، ولتقويته ولشد أزره، لكي يقاوم ويرفض ويتمرد.
ومن الطبيعي أن يستجيب الضعفاء لدعوة الأنبياء وأن يقف الأنبياء إلى جانب هؤلاء المستضعفين، لتخليصهم من سوء العذاب الذي يسلطه عليهم آل كل فرعون، لكي تستقيم مسيرة البشرية.
وقال آل فرعون لموسى ما قاله المشركون لمحمد، واتهموه بالسحر، والاتهام بالسحر هو تسليم بالعجز، واعتراف بعظمة التأثير، ولا يوصف بالسحر إلا من أتى بشيء خارق للعادات.. معجز لا يقدر البشر على مثله، وقال محمد للمشركين ما قاله موسى لآل فرعون قال لهم: إني رسول من رب العالمين، وجاءهم بالبينات وبسلطان مبين، وسخر فرعون من موسى كما سخر المشركون من محمد.. “… قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ” (غافر: 29)، وقال ساخرا: “وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِبا…” (غافر:36-37).
وشخصية فرعون هي إحدى الشخصيات التي اعتمدت عليها القصة في القرآن، لأن دعوة موسى و محمد واحدة، وما يلقاه (محمد) من قومه شبيه بما لقيه موسى من آل فرعون، وانتهت قصة موسى وفرعون بانتصار الحق على الباطل، وأغرق الله آل فرعون في اليم وامتن الله على بني إسرائيل بما أسبغه عليهم من نعمة فضّلهم به على غيرهم، قال تعالى: “وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ” (البقرة: 49)، ولابد أن ينتصر (محمد) على قومه من المشركين كما انتصر موسى على آل فرعون، تحقيقا لقوله تعالى: “إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ” (غافر: 51- 52).
_______________________________________________
المصدر: بتصرف يسير عن كتاب/ المدخل إلى علوم القرآن الكريم، محمد فاروق النبهان، ص:29 http://bit.ly/2kGEwKb