تسدل الستارة على هذا المشهد الرائع المعبر، ويبتدئ مشهد جديد، هو الأشد في التأثير وهو الأقوى في التعبير عن عظمة الحكمة الإلهية في القصة القرآنية…
محمد فاروق النبهان
بعد أن انتهينا من قصة موسى عليه السلام وانتقلنا لقصة يوسف الصديق ها نحن نكمل بقية تفاصيلها الجاذبة المثيرة…
لمتابعة الأجزاء السابقة من سلسلة القصة القرآنية يمكنكم الضغط على العناوين التالية:
القصة القرآنية.. روعة الإعجاز في دقة الإيجاز! (الجزء الأول)
القصة القرآنية.. روعة الإعجاز في دقة الإيجاز! (الجزء الثاني)
القصة القرآنية.. روعة الإعجاز في دقة الإيجاز! (الجزء الثالث)
قال الملك: “إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ…” (يوسف:43)
وأطرقت الوجوه حائرة لا تنبس ببنت شفة.. ماذا نجيب؟.. والملك يلح عليهم وهو قلق: ويكرر: أفتوني في رؤياي.. ويلتفت يمنة ويسرة.. فلا يسمع إلا صوتا هامسا يتردد في الأرجاء..
– أضغاث أحلام.. يا أيها الملك.. وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين..
وفجأة تقدم رجل.. يمشي بخطا ثابتة.. واثقا من نفسه قال باطمئنان: “… أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ…” (يوسف:45)
ونظر الجميع إليه بدهشة.. والكل يتساءل.. من أين لك علم التأويل، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.. قال:هناك في السجن يوسف.. أرسلوني إليه.. ما أتانا طعام رزقناه إلا نبأنا بتأويله قبل أن يأتينا.. ذلك مما علمه الله..
ووقف الرجل أمام يوسف خجلا معتذرا، وقد أنساه الشيطان ذكره أمام الملك.. قال بتحبب:
“يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ” (يوسف: 46)
قال يوسف:
“تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ” (يوسف: 47- 49).
سمع الملك تأويل الرؤيا، وأعجب بدقة التأويل وبصدقه ولا شك أنه تأكد من صدق ذلك التأويل، وعلم أن ذلك التأويل مما لم يعهده الناس، وأنه مما اختص الله به يوسف.
وأسرع الملك مخاطبا أعوانه: “… ائْتُونِي بِهِ…” (يوسف:50)
فلما جاءه الرسول مبشرا بأمر الملك.. رفض يوسف أن يعود قبل أن تبرأ ساحته، وينصف بعد ظلم، ويعاد له اعتباره، وقال للرسول:”… ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ” (يوسف:50)، ووقف الملك أمام النسوة يستفسرهن عن الحقيقة قائلا:”ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ…” (يوسف:51)
أجابت النسوة بصوت واحد:”حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ…” (يوسف:51)
وتقدمت امرأة العزيز مطأطئة رأسها بخجل وحياء، معترفة بالحقيقة، مؤكدة أنها لا يمكن أن تخونه بالغيب قائلة:”الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ…” (يوسف:51)
“وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ” (يوسف:53).
ولما عرف الملك الحقيقة كاملة، وتأكد مما أُلحق بيوسف من ظلم، وما قاساه من كيد النساء، وما سمعه من ثناء عليه، قال من جديد مستعجلا عودته إليه: “… ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي…” (يوسف:54)
ووقف يوسف أمام الملك عزيزا كريما رافع الرأس موفور الكرامة، قال له الملك:”…إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ…” (يوسف:54)
وأجابه يوسف بثقة:”… اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ” (يوسف: 55).
القصة القرآنية.. التعبير الأقوى عن عظمة الحكمة الإلهية
وتسدل الستارة على هذا المشهد الرائع المعبر، ويبتدئ مشهد جديد، هو الأشد في التأثير وهو الأقوى في التعبير عن عظمة الحكمة الإلهية في القصة القرآنية، التي تشير في كل مشهد وفي كل موقف إلى تلك الحكمة، وتضع يدنا على عبر عظيمة الدلالة، لكي يتعلم جيل الخلف من جيل السلف، فالغد أمس يتجدد، والأمس غد يُعاد، ويقف الإنسان أمام الأحداث مذهولا، لا يدري أن الدروس والعبر بين يديه، شاخصة حية..
ووقف يوسف بشموخ ورفعة بعد أن مكن الله له في الأرض يستقبل وفود المحتاجين من بلاد كنعان بعد أن أصابهم القحط وحل بهم الجوع يعطيهم الطعام والمال، ووقف إخوته أمامه، فعرفهم وهم له منكرون وقال لهم: “… ائتوني بِأَخٍ لَكُم مِن أَبيكُم أَلا تَرَونَ أَنّي أوفِي الكَيلَ وَأَنا خَيرُ المُنزِلينَ. فَإِن لَم تَأتوني بِهِ فَلا كَيلَ لَكُم عِندي وَلا تَقرَبونِ” (يوسف:59-60).
ومن جديد.. وقع حوار لطيف بين الأب وأبنائه:”… يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ” (يوسف:63).
وأجابهم الأب بصوت هامس حزين، يدل على عمق الجرح العظيم ومدى تأثيره في نفسه.
“… هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ” (يوسف:64).
ولما رأوا بضاعتهم ردت إليهم صاحوا بفرح:
“… يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ…” (يوسف:65).
وأجابهم الأب وقد أحيط به:”لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ…” (يوسف:66)
فلما فعلوا.. أوصاهم أبوهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، ووقفوا من جديد بين يدي يوسف، وآوى إليه أخوه، وقال له:”… إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ…“(يوسف:69).
وجعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون وساد صمت رهيب.. أعقبه احتجاج وإنكار، قالوا:”تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ” (يوسف:73).
ولما استخرج صواع الملك من وعاء أخيه، عاودهم شعور الكراهية والحسد نحو يوسف.. قالوا:”إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ…” (يوسف:77).
وفجأة تذكروا موثقهم مع أبيهم، سيشك في صدقهم، وخجلوا من أنفسهم، والتفتوا إلى يوسف، وهو يقهقه في أعماقه، يرى حيرتهم ويتتبع ملامح وجوههم، وهم يرددون:”يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ” (يوسف:78).
ورد عليهم بحزم:”… مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ” (يوسف:79)
ووقفوا من جديد أمام أبيهم:
“… يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ. وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ” (يوسف:81-82).
واستسلم الأب الصالح لأمر ربه.. والشك يراوده، وأخذت الدموع تسيل من عينيه، وابيضت عيناه من الحزن.. وأخذ يردد:”… فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ…” (يوسف:83).
ولما ضاق صدرهم بما كان يردده الأب عن يوسف قال:”إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ” (يوسف:86). وأمرهم أن يتحسسوا من يوسف وأخيه.. وألا ييأسوا من روح الله.
ومن جديد عادوا إلى يوسف قائلين:”… يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا…” (يوسف:88).
وأراد يوسف أن يكشف عن نفسه، فلقد أوشكت القصة على النهاية وأدت الغاية منها.
“قال هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ…
“قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ…
“… قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا…“
“قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ“
“قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ” (يوسف: 89-92)
ونادى الأب الصالح لما اقتربت العير:”… إني لأجد ريح يوسف…” (يوسف:94)
“فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ. قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ“. (يوسف:96-98).
ووقف الأب والإخوة أمام يوسف وقد رفع أبويه على العرش وخروا له سجدا، وأخذ يوسف يخاطب أباه:”يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ” (يوسف: 100).
“رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ” (يوسف: 101).
_________________________________________
المصدر: بتصرف يسير عن كتاب/ المدخل إلى علوم القرآن الكريم، محمد فاروق النبهان، ص:32 http://bit.ly/2kGEwKb