بدأت القصة القرآنية لحياة يوسف وإخوته بقوله تعالى: “لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ” (يوسف:7)، وهذه هي العبرة من القصة أن تكون آية لغيرهم من الناس…
محمد فاروق النبهان
ننتقل من قصة موسى عليه السلام لقصة نبي آخر هو يوسف الصديق:
لمتابعة الجزئين الأول والثاني من سلسلة القصة القرآنية يمكنكم الضغط على العناوين التالية:
القصة القرآنية.. روعة الإعجاز في دقة الإيجاز! (الجزء الأول)
القصة القرآنية.. روعة الإعجاز في دقة الإيجاز! (الجزء الثاني)
وقصة يوسف عليه السلام تعد من أبرز القصص القرآني، وهي قصة رائعة التصوير رفيعة المعنى، جميلة النظم، عظيمة الدلالات، عميقة الإشارات، تصف الطبائع البشرية، وتفضح أساليب الغدر والكيد.
وأروع ما في قصة يوسف تلك الخاتمة العظيمة التي ختم الله بها القصة وتحمل في ثناياها أعظم الدلالات على أهداف القصة في القرآن، وأروع الدروس التي تبين عاقبة الأمم من قبلنا، ومن آمن منهم ومن كفر، من صدق بالأنبياء ومن جحد، قال تعالى:
“أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ. حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ. لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” (يوسف:109-111).
وقصة يوسف كما حددتها الآيات الأولى من السورة تهدف إلى بيان أمرين اثنين:
أولا: بيان نعمة الله على أنبيائه، وكيف يجتبيهم ويعلمهم من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليهم، وهي لا تختلف من حيث الدلالة عن قصة موسى وآل فرعون، وكما التقط آل فرعون الطفل من اليم ليكون لهم قرة عين، فقد اشترى عزيز مصر يوسف بثمن بخس دراهم معدودات وقال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، وتبرز العناية الإلهية في توجيه أحداث القصة ووقائعها والإمساك بزمام الشخصيات التي تنفذ ما أحكمته القدرة الإلهية من التمكين ليوسف في الأرض وتعليمه من تأويل الأحاديث..
ثانيا: بيان ما طبعت عليه النفس الإنسانية من استعداد للشر، وتمثل هذا الاستعداد فيما توقعه الأب عند ما سمع رؤيا يوسف في المنام، وأنه رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر يسجدون له فقال له أبوه، وقد توقع من أبنائه الآخرين إذا سمعوا بذلك أن يكيدوا له، “قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ” (يوسف: 5).
بداية القصة القرآنية لحياة يوسف عليه السلام
وبدأت القصة القرآنية لحياة يوسف وإخوته بقوله تعالى: “لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ” (يوسف:7)، وهذه هي العبرة من القصة أن تكون آية لغيرهم من الناس، ثم بدأت بعد ذلك بمقدمة يسيرة عن أصل المشكلة، إخوة متنافسون، شعور الإخوة بحب الأب لأحد أبنائه، الطبيعة البشرية الغاشمة أحيانا.. وبسرعة يتم اتخاذ القرار.
“اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً…” (يوسف:9).
“لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ…” (يوسف:10)
ووقف الأبناء أمام أبيهم معاتبين:
“يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ…” (يوسف:11)
“أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ…” (يوسف:12)
وبدأ الخوف ينتاب الأب الصالح.. لماذا هذه العناية المفاجئة بيوسف؟، لماذا هذا الحب الذي ما عهده في أولاده؟.. وداخله الشك والريبة وخاف عليه..
ولا سبيل إلى إيقاف هذا الحكم الإلهي الذي يساق البشر إليه، وهم عنه غافلون..
وفي العِشاء.. والظلام يخيم والرهبة مسيطرة على النفوس.. وقف الأبناء أمام أبيهم يبكون..
“يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ” (يوسف:16)
“وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ…” (يوسف:18) لتأكيد الرواية..
وأحس الأب الصالح بما جرى.. ولكن لا سبيل لديه لمعرفة الحقيقة.. ولا يملك إلا الصبر..
وهمس لسانه بكلمات قليلة:
“… بَل سَوَّلَت لَكُم أَنفُسُكُم أَمرًا
فَصَبرٌ جَميلٌ
وَاللَّـهُ المُستَعانُ عَلى ما تَصِفونَ” (يوسف:18) ثلاث جمل معبرة.. الشك في الرواية.. التمسك بالصبر.. الاستعانة بالله لمواجهة هذه النكبة..
ويبتدئ مسلسل الإعداد والتكوين.. وفقا لأحداث متتالية يقود بعضها البعض الآخر، في حلقات متكاملة..
– جاءت سيارة.. قال واردهم: “يا بُشْرى هذا غُلامٌ…“
– وباعوه بثمن بخس.. قال الذي اشتراه لامرأته: “أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً…” (يوسف:21)
وبدأت المحنة الجديدة..
“وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ…
وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ…
وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ…” (يوسف:23)
بلهجة المؤمن الذي مكن الله له في الأرض وعلمه تأويل الأحاديث وبإيمان من آتاه الله حكما وعلما قال: “مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ” (يوسف:23)
وهمت به.. وهم بها.. والهم هنا متعدد المعاني.. والأقرب والأوضح من الآية هو البطش.. في حالتي المدافعة والمغالبة، كل منهما يريد أن يهم بالآخر، هي تريد تنفيذ ما فكرت فيه.. وهو يريد أن يتخلص بالقوة، ولا سبيل لتفسير الهم بإرادة الفاحشة منه لأن سياق الآية أكد أن الهم المتبادل جاء بعد الرفض..
وفي تلك اللحظة رأى برهان ربه، الذي تولى أمره، وجعله من المخلصين..
وأسرع كل منهما للباب.. وفجأة ظهر السيد.. ورأى المشهد المثير، وقبل أن يسأل أو يستفسر أو يحكم أو يتهم أو يدين انفجرت المرأة لتحقق أمرين معا:
تبرئة نفسها… والكيد لذلك الذي أذل أنوثتها قالت بحدة: “…ما جَزاءُ مَن أَرادَ بِأَهلِكَ سوءًا إِلّا أَن يُسجَنَ أَو عَذابٌ أَليمٌ” (يوسف:25) واستعملت كلمة (أهلك) لتحريض الزوج وإثارته، وحددت له العقوبة، السجن أو العذاب الأليم..
ودافع يوسف عن نفسه.. ولا خيار له..
“هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي…
وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها…” (يوسف:26)
فلما تأكد الزوج من براءة يوسف.. قال كلمة معبرة عن الإدانة: “…إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ” (يوسف:28)
والتفت إلى كل من يوسف وامرأته قائلا:
“يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا…
– وأنتِ: “َاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ..
ولما انتشر الأمر وشاع.. وأخذ نسوة في المدينة يتحدثن عن امرأة العزيز التي تراود فتاها عن نفسه، قالوا: “… قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ” (يوسف:30)
وغضبت لما سمعت ما قيل عنها.. وأرادت أن تؤكد لهن لماذا شغفها حبا..
ويصف القرآن بعبارات موجزة ما فعلت تلك المرأة:
“أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ…
وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً…
وَءاتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً…
وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ…” (يوسف:31)
فلما رأينه أكبرنه.. وقطعن أيديهن.. وبصوت واحد قلن:
“… حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ” (يوسف:31)
هنا.. ارتاحت امرأة العزيز.. انتصرت.. ليست الوحيدة التي يمكن أن تضعف، ولماذا تخفي الحقيقة.. لماذا تكذب على نفسها…
هي امرأة العزيز ومن حقها أن تعيش سعيدة.. وليس من حق يوسف الذي أحبته أن يرفض طلبها، لن تسمح له بذلك.. لن تخجل بعد اليوم من حبها.. هي امرأة ومن حقها أن تحب…
وقالت بغضب وحدة لمن حولها من النسوة:
“…فذلكن الذي لمتنني فيه…“
“وَلَقَد راوَدتُهُ عَن نَفسِهِ فَاستَعصَمَ…“.. نعم راودته.. ولا أخجل من هذا..
“… وَلَئِن لَم يَفعَل ما آمُرُهُ لَيُسجَنَنَّ وَلَيَكونًا مِنَ الصّاغِرينَ” (يوسف: 32) ولا خيار له بعد ذلك..
وأطرق يوسف رأسه هنيهة.. ثم رفع رأسه إلى السماء معتصما بالله مستسلما لأمره ملتجئا إليه، كما يفعل العبد عند ما يشعر بعجزه.. وأخذ يدعو..
“… رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ…“
“وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ” (يوسف:33)
ودخل السجن.. ربما كان ذلك رحمة به.. لكي تتوقف المحنة التي صُبَّت عليه من امرأة العزيز.. ما زال كيدها يلاحقه.. لن تتركه أبدا ينعم بالراحة..
وفي السجن برز يوسف.. أنضجته المحنة.. وعلمته ما لم يكن يعلم..
واشتهرت معجزته التي أكرمه الله بها، آتاه الله حكما وعلما وعلمه من تأويل الأحاديث، وأخذ يحدث أصحابه في السجن بما علمه الله من تأويل الأحاديث ويدعو بالحكمة والحجة إلى الإيمان بالله وإلى نبذ الشرك والكفر، داعيا إلى عبادة الله واتباع ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب..
ووقف بين صاحبيه في السجن يقول لهما:
“يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ. ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ” (يوسف: 39- 40).
ومكث يوسف في السجن بضع سنين، وكاد أن يُنسى، تلك شريعة الظلم والطغيان، وكيف يمكن لعزيز مصر أن يذكر ذلك الشاب الذي تعلقت به زوجته، وتحدث الناس بشغفها فيه.. كان عليه أن يمكث في الظلام لكي يطمئن ذلك العزيز إلى وفاء زوجته.. لكي تنساه.. وينسى الناس ما تحدثت النسوة به..
ودخل معه السجن فتيان من فتيان العزيز اتُّهِما بالتآمر عليه:
“… قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا…“
“… وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه…” (يوسف: 36)
قال يوسف وقد علمه الله تأويل الأحاديث.. وذلك بفضل ما ترك من ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون، واتباعه ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
يا صاحبي السجن:
“…أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً…“
“وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ…” (يوسف:41).
وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان.. ومرت هذه الحادثة.. ونسي من هو ناج منهما يوسف، أنساه الشيطان ذكره.
بعد بضع سنين.. في مجلس الملك.. وقد التف صحبه حوله وكان قلقا من منام:
“يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤيايَ…“
“إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ…” (يوسف:43)
وأطرقت الوجوه حائرة لا تنبس ببنت شفة.. ماذا نجيب؟.. والملك يلح عليهم وهو قلق: ويكرر: أفتوني في رؤياي.. ويلتفت يمنة ويسرة.. فلا يسمع إلا صوتا هامسا يتردد في الأرجاء..
– أضغاث أحلام.. يا أيها الملك.. وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين..
وفجأة تقدم رجل.. يمشي بخطا ثابتة.. واثقا من نفسه قال باطمئنان: “… أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ…” (يوسف:45)
ونظر الجميع إليه بدهشة.. والكل يتساءل.. من أين لك علم التأويل، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.. قال: >>> يتبع
___________________________________________________
المصدر: بتصرف يسير عن كتاب/ المدخل إلى علوم القرآن الكريم، محمد فاروق النبهان، ص:30 http://bit.ly/2kGEwKb