يقوم الوجود الحي وغير الحي على عمليتين عكسيتين هما “التجميع” و”الفلق” لذا ينبغي أن يتصف خالق الوجود ومدبره بالقدرة على هذين الفعلين فهو الجامع لكل منقسم، وهو فالق الحب والنوى…
أ.د. عمرو شريف
تجميع وانقسام
بعدما أنتج الانفجار الأعظم طاقة الكون، تمدد الكون الوليد وتبَرَّد فتحولت بعض طاقته إلى جسيمات المادة ومضادات المادة. ثم “اجتمعت” تلك الجسيمات وتعادلت وتلاشت، وبقيت كمية محدودة من الجسيمات الأولية (أهمها الكواركات والإلكترونات) كانت هي مصدر ما في الكون من مادة بقيت حتى الآن وستبقى حتى فناء الكون.
ثم “اجتمعت” الكواركات بهيئات معينة لتنتج البروتونات والنيترونات، التي “اجتمعت” لتنتج نويات الذرات. ثم “اجتمعت” الإلكترونات مع النويات لتشكل ذرات عناصر المادة. و”تجتمع” الذرات لتشكل جزيئات المركبات الكيميائية والفيزيائية لتشكل كل ما في الوجود من مواد.
وتمثل عملية “التجميع” أيضا المصدر الرئيسي للطاقة المتجددة في الكون. فيما يحدث في النجوم (كنجمنا الشمس) من “اندماجات نووية” بين ذرات الهيدروجين هو مصدر الطاقة التي تبعثها النجوم في الفضاء المحيط والكواكب والتوابع الدوارة حولها.
كذلك تقوم ظاهرة الحياة على عمليات تجميع عديدة، ” فتجتمع” ذرات بعض العناصر لتكون الأحماض الأمينية التي “تجتمع” لتشكل البروتينات التي هي أهم مكونات بنية الخلية. وتجتمع عناصر أخرى “لتُكَوِّن” القواعد النيتروجينية الأربع التي تكتب الشفرة الوراثية التي يحملها جزئ DNA ومثله RNA الناقل لهذه الشفرة، وهكذا مع كل مكون من مكونات الخلية التي “تجتمع” لتشكل الخلايا الحية، التي “تجتمع” بدورها لتشكل الأنسجة، ثم الأعضاء، ثم الكائنات الحية.
من التجميع إلى الانقسام
وإذا انتقلنا من “عملية التجميع” إلى العملية المضادة وهي “عملية الانقسام”، قابلنا العديد من الأمثلة التي يقوم عليها بقاء الكون، ومن أمثلة ذلك، ما يحدث في “لُب كوكب الأرض Core” ، ففي قلب هذا اللب تحدث عمليات “انشطار نووي” للنظائر المشعة التي يشتمل عليها، وهذا الانشطار هو المسئول عن الطاقة التي تحفظ جزءاً من لب الأرض في هيئة حديد منصهر، ومسئول أيضاً عن الاحتفاظ بقشرة الكرة الأرضية في هيئة منتفخة ككرة القدم، ولولا تلك الطاقة لتداعت صفائح القشرة الأرضية وانهارت على بعضها البعض.
ومن أمثلة الانقسام الأخرى عمليات “تفكك” المركبات الكيميائية المعقدة على مركبات أبسط منها، كما يحدث في عملية هضم الغذاء، وأيضاً عمليات تعفن المركبات العضوية، ففيها “تتحلل” المواد العضوية إلى مواد أبسط لتستمر دورة الحياة في الأرض، ونقوم نحن بمحاكاة نفس العملية في عمليات تكرير البترول.
ويشتمل “تكاثر الكائنات الحية” على عمليتي الانقسام والتجميع في مراحل متعاقبة. فتكوين الحيوانات المنوية وحبوب اللقاح يحتاج “لانقسام ” الخلايا الذكورية بأسلوب اختزالي يهبط بعدد كروموسوماتها إلى النصف، وكذلك بويضات الإناث. وعندما يحدث الإخصاب، الذي هو عملية “تجميع” للعناصر الذكورية والأنثوية تنتُج خلية متكاملة الكروموسومات تُعرف بـ “الزيجوت” ثم تأخذ خلية الزيجوت في “الانقسام” ملايين المرات لينتج في النهاية جسم الكائن الحي، الذي ينمو مع التقدم في العمر بمزيد من عمليات الانقسام.
فالق الحب والنوى
وقد أطلق القرآن الكريم على عملية الانقسام اصطلاح “الفلق” وبيّن أنها تحدث في “الحب والنوى” ، وهما قلب الأشياء الحية وغير الحية “إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ” (الأنعام:95). وقد كرر الحق سبحانه وتعالى نسبة هذه العملية لنفسه فقال: “قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ” (الفلق:1)
هكذا يقوم الوجود الحي وغير الحي على عمليتين عكسيتين هما “التجميع” و”الفلق” لذا ينبغي أن يتصف خالق الوجود ومدبره بالقدرة على هذين الفعلين.
_________________________________
المصدر: بتصرف يسير عن كتاب/ الوجود رسالة توحيد، نيو بوك للنشر، القاهرة، ط1، 2015