خصصت ليديا جايجر Lydia Jaeger فصلين كاملين في كتابٍ حررته من مجموعة مقالات لبعض العلماء في فبراير/شباط 2011م بعنوان “من سفر التكوين إلى الجينوم” (De la Genèse au génome)كأدلة علمية تدعم نظرية التطور. وهذان الفصلان هما: “أدلة ومسائل واضحة حول نظرية التطور” (من صفحة 55 إلى 67) لعالم الوراثة الإنجيلي باسكل توزيت Pascal Touzet، و”الحفريات والتطور” لعالم الحفريات الكاثوليكي مارك جودنوت Marc Godinot – مدير دراسات في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا- (من صفحة 69 إلى 83).
وفي هذا الكتاب المُجْمَع؛ أجمعَ المؤلفون على الاقتناع بنظرية التطور، ومنطِقها الدارويني، مؤيدين رأي عالم الوراثة ريتشارد غولدشميت Richard B. Goldschmidt، القائل بأن “جميع العقلاء يرون تطورَ عالم الحيوان والنبات حقيقةً لا تحتاج إلى دليل إضافي”. [مجلة العالِم الأمريكي 1952 – 40:84].
ويهدف هذا المقال إلى اختبار صحة أدلة ما طرحها عالمان مسيحيان – تم قبولها توافقيَّا من قبل المجتمع العلمي الدولي – للنظرية الاصطناعية الحديثة للتطور، أو ما يعرف أيضًا بالداروينية الحديثة. ولا ندَّعي أبدًا تقديم تفنيد شامل وممنهج للتطور؛ بل سنقف على الادعاءات التي تمت الإشارة إليها في كتاب “من سفر التكوين إلى الجينيوم”.
من الضروري -قبل الدخول في صلب الموضوع- تحديد المصطلحات المستخدمة في هذا المقال بوضوح، لتجنب اللبس. فلسنا نعتزم مناقشة سؤال أصل الحياة أو سؤال النشوء الحيوي هنا – كما يفعل المبشر المسيحي هنري بلوشر Henri Blocher-. وعليه فإن مصطلح التطور سيتم استخدامه في هذا المقال دلالةً على تحول في (النوع) يطرأ على نسل سلف مشترك عن طريق تغيرات في النوع، وهي ظاهرة تسمى في العلوم بـ “التطور الكبروي” (Macroevolution)، أما التباين في النوع الذي يشار إليه عادةً- عن طريق الخطأ- بـ “التطور الصغروي” (Microevolution) فلن يدرج ضمن هذا التعريف. كما تجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن( توزيت) لم يكلف نفسه عناء التمييز بين المصطلحين حتى، فخلط بين المسارين من البداية، كما لو أن دليل التطور على نطاق صغير يُرسي دليل التطور العام، أو كأنهما مساران بالإمكان أن يأخذا مكان بعضهما.. وإلى الجزء الثاني من المقال…
تطور الإنسان
عندما نتعرف على ظروف اكتشاف حفريات “ما قبل الإنسان”، يصير عدم تصديق النظريات المطروحة حول أصل الإنسان حقًا لنا. على سبيل المثال: تمت إعادة تشكيل الـ هسبيروبايثيكوس-إنسان نبراسكا-، استنادًا إلى ضرسٍ اتضح فيما بعد أنه ضرسُ خنزير!؛ ويقدم التطوري الفرنسي والخبير المرموق في علم الحيوان بييرباول جراسيه Pierre-Paul Grassé طرحًا شيقًا حول هذا الموضوع فيقول: “في تاريخ الرئيسيات، يجب علينا أن نحذر من إعادة تشكيل أسلافنا بناءً على وثائق معدمة (بعض الأسنان، قطعة من الفك، الجزء العلوي من الجمجمة) قدمها بعض علماء الحفريات الطافحين بالخيال. وهذا يفسر السرعة التي تُبنى بها شجرة عائلة الإنسان، بيْد أنها لا تلبث أن تسقط. فنحن لدينا انطباع بأن الأعمال الأخيرة ليست مُرضية-رغم ما تحمله من اكتشافات جديدة ومثيرة للاهتمام- فليس لدى مؤلفيها المعرفة ولا الحس السليم الذي يسمح لهم بتفسيرها كما ينبغي”.
اكتُشِفَ “لوسي”، أو ما يسمى بالـ أسترالوبيثكس أو القرد الجنوبي الأشهر على الإطلاق، عام 1974 على يد دونالد جوهانسون Donald Johanson، وهو يُعد قردًا كما الآخرين، وليس من فصيلة الإنسانيات، وهذا يؤكده مارفن ل. لوبينو Marvin L. Lubenow بعد 25 عامًا من دراسة حفريات الإنسان. كما أن لـ “لوسي” حوض، على وجه الخصوص، أكبر، وسلامياته المقوسة تَدُلُ على أنه كان يعيش على الأشجار.
تم تسميه الإنسان الحاذق أو الإنسان الماهر Homo habilis بهذا الاسم لأنه كان يصنع أدوات حجرية بدائية للغاية. بيْد أننا اكتشفنا أيضًا أن الشمبانزي المعاصر يستطيع أن يصنع أدوات بالغة البساطة: كأنواع مكانس لاصطياد النمل الأبيض. وعليه فإن الاختلافات بين القرد والإنسان الحاذق لم تعد موجودة.
ويطرح الإنسان المنتصب Homo erectus إشكالية خطيرة، ذلك لأنه بقي على حاله بلا تغير لمدة 1.7 مليون عام وفقًا للتطوريين. وهذا لا يدل إذًا على أي تطور تدريجي نحو الإنسان.
وحتى الـ الإنسان البدائي أو نياندرتال Neanderthal، والذي اعتُبر لفترة طويلة وسيطًا بين الإنسان والقرد، أصبح الآن إنسانًا عاقلًا Homo Sapiens [26] مثلنا.
شهادة علم الوراثة:
حان الوقت لدراسة المجموعة الثانية من الدلائل الداعمة للتطور التي طرحها توزيت، وهي الأدلة الوراثية.
تتمثل المسلَّمة الكبرى للتطور البيولوجي الدارويني في الطفرات الجينية التي تُحدِثُ تغيُّرات ضئيلة في الجينوم، من خلال إضافة معلومات صالحة للفرد، ويلي ذلك الانتقاء، الذي يُقصي الأفراد الأقل تأقلمًا مع البيئة ويُحسّن سمة مميزة تستجيب للتغير البيئي. ومن الواضح أن توزيت وجودينوت اعتنقا هذه الرؤية ودمجا نظرية التطور بالتفسير الوحيد للدراروينية الحديثة. ولذلك يُلخص توزيت قائلًا: “إن القوتين أو عوامل التطور هما الصدفةُ مجتمعةً مع الوقت”!!
الطفرات
يتكون عدد كبير من الطفرات من طفرات دقيقة تقابل أخطاءً في قاعدة أو أكثر للحمض النووي، حيث تتكاثر باستمرار داخل الخلايا، تارة عند تناسخ الحمض النووي، وتارة بشكل عفوي، وتارة أخرى بفعل العوامل الكيميائية أو الأشعة فوق البنفسجية أو النشاط الإشعاعي. يقوم الإنزيم الذي يُضاعف الحمض النووي بإصلاح نفسه ذاتيًا عن طريق إعادة قراءة الحمض الجديد. والخلية تمتلك على الأقل 130 أنزيمًا له دور الإصلاح. وهذا يدل على الطبيعة الضارة للطفرات بالنسبة للخلية.
ومع ذلك، قد يظل هذا عددًا ضئيلًا نسبيًا من الطفرات، ولكن نتائجها في أغلب الأحيان تكون محايدة أو سالبة. ويكفي ملاحظة السرطان والأمراض الأخرى التي تنتجها. وفي الوقت الحاضر، هناك ما يتراوح بين 6000 و7000 مرضٍ وراثيّ، كما أن هناك خمس أمراض جديدة تظهر أسبوعيًا، ولا يعتقد أي طبيب أن الطفرات شيء إيجابي.
وفي المختبر، لم تنجح الطفرات التي أُجريت على الذباب الصغير، ذباب الفاكهة، في ظهور تطور إيجابي للحيوان، بل على العكس، ظلت ذبابة الفكاهة على حالها، وفي كثير من الأحيان أصبحت معاقة، وتبقى البكتيريا على حالها، رغم استعدادها الطبيعي على التحول. وعليه، فإن الطفرات موجودة بالفعل، ولكن الأكثرية منها محايدة أو ضارة للفرد، وبلا أثر يسمح بالانتقاء، كما يقول عالم الأحياء الياباني الشهير موتو كيمورا، Motoo Kimura.
والسؤال البديهي الذي يطرح نفسه هو: هل الطفرات عامل مُبتَكِر؟
سيكون للجين الجديد، أو المتحول، دور في ظهور بروتين جديد. بيْد أن للخلية ما يقرب من 10.000 بروتين مختلف، أغلبها إنزيمات لها دور في السماح بتفاعلات كيميائية محددة. ولكل إنزيم شكل دقيق للغاية يسمح له بالاندماج مع المادة التي يتفاعل معها بشكل مثالي،فتجتمع بعض ذراته أمام بعض ذرات المادة كي يغير فيها بدقة وديناميكية (نموذج القفل والمفتاح). ويتكون البروتين في سلسلة تحوي 400 حمضٍ أمينيٍّ كمتوسط. وابتداءًا من 20 حمضًا أمينيًّا أساسيًّا، يتوفر لدينا 20400 احتمالٍ لتكون بروتين. وعلى سبيل المقارنة، هناك 1080 جزيئًا فقط في الكون المحسوس.
وعليه فإنه يتعين على الخلية إنشاء مليارات ومليارات الجينات المختلفة حتى يحالفها الحظ في إيجاد بروتين جيد، ولكنها ستكون ميتة منذ وقت طويل بسبب تكدُّس جميع البروتينات الضارة، ناهيك عن ضرورة تكرار هذه العملية مع كل بروتين، وهذا يعني 10000 مرة! وقد يكون من السهل أن نتخيل أن عدة طفرات تكفي لتحويل بروتين ما إلى آخر قريب (كالحالات التي يتم كثيرًا الاستشهاد بها مثل هيموجلوبين الدم أو أوبسين العين، وهلم جرًا)، ولكن من أجل هذا الكم من البروتينات، تُخبرنا البيانات الإحصائية باستحالة ظهور بروتين بالصدفة. ومن ناحية أخرى، فلننظر في مثال عين ذبابة الفاكهة، إذ يتحكم في بنيتها 2500 جينٍ أو 2500 بروتينٍ! لذلك فإن نظرية التطور تصطدم بثلاثة مستحيلات:
ظهور هذا الحجم الهائل من التعقيد والتنوع والتفرد للبروتينات.
ظهور هذا الكم الهائل من البروتينات التي توجه نفس العضو وتنظمه.
عملية الانتقاء الطبيعي التي تزيل-داخل نوع ما-جميع الكائنات الحية التي لديها عضو غير مكتمل لأنها غير نافعة.
ولذلك، لا يجدر الاعتقاد بأن طفرات إيجابية نادرة – واحد من 100.000، كما يعتقد البعض- تكفي لإنشاء أعضاء جديدة معتمدة على التطور الكبروي.
وأمام هذه الحقائق، لماذا يستمر التطوريون في التأكيد على أن الطفرات يمكن أن تكون إيجابية وأن تكون سببًا في تطور العالم الحي؟ فهم يستشهدون- بشكل عام- ببعض الحالات التي تمت ملاحظتها والتي لا تتعلق إلا بتغيرات صغيرة متعلقة ببعض الأنواع المحدودة للغاية.
إضافة إلى ذلك، يستشهد توزيت بالمثال التقليدي المتعلق بمقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية-وهي قدرة البكتيريا على التأقلم في وسط غذائي ضار- كدليل على التطور. وبالفعل، تتبادل البكتيريا المعلومات الوراثية بسهولة مع بعضها البعض. فعندما تخضع البكتيريا لمضاد حيوي، تلتصق جزيئات الدواء بأحد أجزاء ريبوسومات البكتيريا وتتداخل في عملية إنتاج البروتينات. وعندئذ، يكون الريبوسوم غير قادر على تجميع أحماض أمينية جيدة، ولا يستطيع إنتاج إلا بروتينات غير فعالة. ومع ذلك تنجو بعض البكتريا المتنقلة من هذا العلاج المفاجئ.
وهذه البكتيريا هي التي تتكاثر وتحل محل البكتيريا التي قضى عليها العلاج. والطفرات تقلل من خصائص الريبوسوم: حيث تقوم الطفرات بتغيير موقع التصاق المضاد الحيوي، مما يمنع المضاد الحيوي من الالتصاق. وعليه فإن ضياع المعلومات يؤدي إلى ضياع حساسية الدواء، مما يُفضي إلى المقاومة. ذلك لأن هذا التأثير الذي يحدث في الجينات وراثي ويمكن أن تنشأ من هذه الطفرة سلالة بكتيريا مقاومة. كما أن أداء الريبوسومات المُعدَّلة يتدهور وتبدأ في إنتاج بروتينات بسرعة أقل. ومع ذلك، في حالة غياب المضاد الحيوي، تصبح البكتيريا غير المقاومة أكثر ملائمة للبقاء على قيد الحياة. وعليه فإن مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية تكون على حساب فقد المعلومات الوراثية، وهذا لا يُمثل أي ابتكار.
وهناك آلية أخرى ممكنة لمقاومة البكتريا، وهي طفرة وراثية تسبب تشوهًا بسيطًا في الإنزيم الذي يستهدفه المضاد الحيوي (إنزيم في البكتيريا يُفسد – عادةً – المضاد الحيوي). ولا وجود لجين إضافي ولا لوظيفة جديدة للخلايا في النوع الجديد الناشئ. بل والأسوأ من هذا، أنه يُصبح “معاقًا” لأن أحد إنزيماته معيب. ولكن النتيجة هي أن تبقى هذه البكتيريا وتموت البكتيريا المعدَّلة.[30] ونجد نفس الأرقام فيما يتعلق بمقاومة البعوض للمبيدات الحشرية، المثال الذي يُستشهد به دائمًا.
الحمض النووي الخردة:
من المثير للدهشة قبول توزيت – بلا تريثٍ- مصطلحَ الحمض النووي الخردة (غير المشفر، ويسمى بالإنجليزية “Junk DNA”)، في نفس الوقت الذي يتم التخلي فيه عنه – أي عن المصطلح ودلالته -؛ وإليكم ما يقوله توزيت: “وهكذا لا يمثل الجزء المشفر للجينوم سوى 1% من الجينوم، في بحر الحمض النووي غير المشفر المتكون بدرجة كبيرة من عناصر متحركة (حوالي 50%)، من الطفيليات الفعلية للجينوم.”
قد تم اكتشاف خصائص الحمض النووي (DNA) غير المشفر، إذْ يتم نسخ جزء كبير من الحمض النووي (DNA) غير المشفر إلى الحمض النووي الريبوزي (RNA)، والذي يلعب دورًا هامًا في نسخ المناطق المشفرة – تفعيل أو إبطال عملية النسخ، وتحديد المناطق-، وفي تنظيم ترجمة الحمض النووي الريبوزي (RNA) في البروتينات. وكذلك يزيدُ الحمضُ النووي الريبوزي (RNA) المنبثقُ من الجينات الكاذبة Pseudogenes صياغةَ جينات ذاتِ وظائف متماثلة… وهلم جرّا.
من ناحية أخرى، فإن الكائنات الحية المختلفة تتقاسم تسلسلات متشابهة للحمض النووي غير المشفر، وهو أمر لا ينبغي أن يحدث إذا كان الحمض النووي غير المشفر وظيفيًا. في الواقع، قد يكون للانتقاء الطبيعي طفرات متراكمة عن طريق الصدفة بحيث يكون الحمض النووي غير المشفر لهذه الكائنات مختلف تمامًا.
كروموسوم 2.
يرى توزيت أيضًا تشابه جينوم الإنسان مع نظيره في الشمبانزي دليلًا على التطور. ويؤكد لنا أن “مبدأ السلالة المعدلة هو أبسط فرضية لشرح تشابه جينوم الإنسان مع نظريه في الشمبانزي. حيث إنه في عام 2005، أظهر تسلسل الجينوم في الشمبانزي تشابهًا كبيرًا بينه وبين جينوم الإنسان.” لكن التشابه الوراثي الخلوي بين كروموسوم( 2) في الإنسان وكروموسوم (2أ) و (2ب) في الشمبانزي لا يؤيد التفسير الانتقالي. حيث يعطينا جان فرانسوا موريل Jean-François Moreel، المتخصص في علم الوراثة الجزيئية وعلم الأجنة، الأسباب:
يستند هذا الادعاء على تكنولوجيا خمسينيات القرن الماضي، أي قبل ظهور المجهر الإلكتروني لتصوير تسلسل الجينات. حيث تم استخدام جهاز قياس بالألوان، مما جعل الكروموسومات تبدو كأنها عصى ذات أشرطة ملونة مميزة. فالعامل الذي يسمح بظهور الأشرطة حول الكروموسومات هو الآلية الكيميائية والهياكل التي يتم تثبيت الأصباغ عليها. وهكذا، فإن تأثير الكيمياء الحيوية على علم الوراثة الجيني لا يزال غير معروف.
أظهرت الدراسات الجينية التي أصبحت أكثر دقة من ذي قبل-على وجه الخصوص- أن وجود قطعتين مركزيتين أو سنترومير Centromere في منتصف كل نصف كروموسوم 2 لا يُثبت بأي حال من الأحوال اندماج كروموسومين للقردة التي كانت تعيش في الماضي، حيث تم العثور على التسلسل الذي يدعى السنترومير الحديث Neocentromere في كل مكان تقريبًا على طول أذرع جميع الكروموسومات وفي كل الفقريات التي كنا نبحث عنها.
في الرئيسيات، نجد أن لبعض الأنواع البعيدة تمامًا عن بعضها تقاربًا كروموسوميًّا شديدًا يصل إلى التطابق، بينما نجد لأنواع قريبة من بعضها اختلافًا تامًا في الكروموسومات.
الانتخاب الطبيعي:
والآن، فلنتحدث عن الانتخاب الطبيعي… هو أحد “عوامل” التطور.
في الحقيقة، إن “الانتخاب الطبيعي” موجود منذ فترة طويلة، حتى قبل داروين، فداروين لم يبتكره، بل ذكره عالم الأحياء والحيوان المؤمن بالخلق إدوارد بليث (1810-1873) في كتاباته (1835-1837) باعتباره تَخلّصًا من الأقل قدرة على الحفاظ على الوضع الراهن للمجموعة.
حيث يستخدمه الرعاة لإنتاج أنواع ملائمة للهدف المنشود (نباتات مقاومة للصقيع، زهور بألوان محددة، أبقار منتجة لحليب أكثر، وهلم جرّا…). والتعليل القائل بأن “الرعاة يفعلون ما تستطيع الطبيعة فعله” تعليلٌ سفسطائي، فالراعي يستخدم ذكاءه في سبيل تنفيذ قوانين جينية، وهو من يحدد بنفسه الأفراد الذين سيجري عليهم عمله، بينما التطورُ الطبيعي أعمى ولا هدف له. أضف إلى ذلك، أن هذا الانتخاب لا يضيف شيئًا لجينوم النوع؛ لذلك لم ينتج المزارعون نوعًا جديدًا. كما أن جميع صفات النوع المنتخب موجودة بالفعل في جينوم النوع، فالطفرة والانتخاب،- طبيعيان أو اصطناعيان – ، لا يخلقان شيئًا، بل يعملان في أفراد النوع الموجودين.
علاوة على ذلك، يقطعُ الأكاديمي الفرنسي الذي كان طبيبًا وعالمَ رياضياتٍ مارسيل باول Marcel-Paul Schützenberger بأن القوة التفسيرية لآلية الانتخاب الطبيعي ضعيفة للغاية فيقول: “إن ما نستطيع فعله، هو إدراك تأثير الانتخاب الطبيعي بعد وقوعه. فعلى سبيل المثال، نحن نلاحظ أن بعض أنواع الحلزونات تأكلها الطيور بدرجة أقل من الأخرى، ربما لإن لديها قوقعة أقل وضوحًا. فهذه البيئة مثيرة للاهتمام بالفعل. وباختصار، يُعد الانتخاب الطبيعي أداة إثبات ضعيفة، ذلك لأن ظواهر الانتخاب الطبيعي واضحة، ولكنها لا تثبت شيئًا من الناحية النظرية”.
بينما يقطع السير إرنست بوريس تشين Sir Ernst Chain، – الحائز على جائزة نوبل في البيولوجي- قطعًا أشد صرامة في قوله: “يبدو لي افتراض أن المسؤول الوحيد عن نمو وبقاء الأصلح هو طفرات عشوائية نظرية لا تستند إلى دليل ولا تتوافق مع الحقائق. فهذه النظريات التطورية الكلاسيكية تشكل تبسيطًا مبالغًا فيه لمجموعة من الحقائق المعقدة والمتشابكة للغاية، ومن العجيب أن يقبلها بسهولة-وبلا أي نقد- العديد من العلماء لفترة طويلة دون أن ينبس أحدٌ ببنت شفة”.
رغم ذلك، يقبل المجتمع العلمي بالتوافق هذه العملية بالتحديد كآلية إنتاج تطوري لأنواع جديدة. لحدوث ذلك، يجب على الطفرات الإيجابية الصغيرة التي تحدث أن تمتد لتشمل مجموعة كاملة وكبيرة بما يكفي وأن تظل محافظة عليها، كما يجب أن تكون قادرة على أن تفرض نفسها وتنتشر (من خلال التكاثر)، وعلى الانتقاء الطبيعي أن يقضي على الأفراد الذين لا يحملون الخاصية الوراثية الجديدة التي من المفترض أن تكون أكثر تكيفًا. وعليه، فإنه من الممكن القول إن احتمال حدوث مثل هذه الأحداث في الوقت المحدد يتجاوز نطاق الممكن.
وتجدر الإشارة إلى أن التغيرات البيئية لا تؤثر على الجينات؛ حيث أنهما عمليتان مستقلتان تمامًا عن بعضهما البعض. وبالتالي يتعين على الطفرات الإيجابية العشوائية النادرة أن تُظهر في الفرد سمة نافعة لحظةَ تغير البيئة. وإذا أردنا تقييم فرصة حدوث مثل هذا الحدث، فإن الاحتمالية: صفر. مرة أخرى، هذا ليس سوى تغيُّرٍ واحد. وتغيُّرٌ واحد في نطاق عضوٍ ما يحتاج إلى مليارات التغيرات في الجينات. كما أن ظهور عضو جديد لا يكفي، حيث من الضروري تغير النظام العصبي وفقًا لذلك، وكذلك جميع التفاعلات الوظيفية-جميعها في نفس الاتجاه – بما في ذلك تناسق أنظمة الجينات منذ التخلق الجنيني Embryogenesis: وهذا يتطلب عشرات المليارات من المعجزات. ومن أجل تحولٍ في النوع (من ديناصور إلى طائر مثلًا …)، لا أحد يستطيع حساب الطفرات الإيجابية اللازم تراكمها وانتقالها إلى الذرية.
فمثلًا، في عام 1972 قدَّر أستاذ الميكانيكا العقلانية جورج ساليت Georges Salet أن احتمالية ظهور عضو جديد أبعد من “الاستحالة الكونية المطلقة” وهي احتمالية تقدّر بـ 200-10، حددها إيميل بوريل Emile Borel، الذي أكد أن حدثًا – غير عادي- ذا احتمال ضعيف بدرجة كافية لا يحدث مطلقًا داخل حدود المكان والزمان (وهو ما يسمى بـ single law of chance). ويخلص إلى أن وجود شيء كهذا مستحيل استحالة جذرية.وخلال كل هذا العمليات، لم نضع في حسباننا – بعدُ – الكم الهائل للطفرات الضارة.
ومن ناحية أخرى، فإن الفترة الزمنية المحددة بعدة مليارات من السنوات لنمو الحياة على الأرض قليلة جدًا لتلبية احتياجات التطور، كما أن الزمن لا يملك أي قوة خلقية، وقد أظهر سانفورد Sanford أن تراكم الطفرات يقلل دائمًا من القدرة على التكيف، وقد اتضح مؤخرًا أن الحجب Epistasis – التفاعل بين الطفرات- يساهم في تقليص نسبة التكيف مع مرور الوقت. وبالتالي، كلما زادت الطفرات – التي تمثل محرك التطور- كلما نقّص من فاعليتها. وقد درس بيير بول غراس Pierre-Paul Grassé أجيالًا من البكتيريا تتكاثر 400 ألف مرة أسرع من الإنسان، أي ما يعادل 3.5 مليون سنة من الأجيال البشرية، “وقد وجد أن هذه البكتيريا لم تتغير مطلقًا طوال هذه الأجيال. وفي ضوء نتائج هذه التجربة، يمكننا القول بإنصاف أن في الفترة التي ظلت فيها البكتيريا محافظة على ذرية مستقرة، لم يتطور أيًا من النباتات أو الإنسان”.
ولكي تعمل الآلية الداروينية، لا بد من الإيمان بالمعجزات بالمعنى الحرفي. في الواقع؛ كانت الكائنات الحية تتكيف بشكل مثير للإعجاب مع بيئاتها، حيث كانت في أغلب الأحيان تعيش في انسجام مع الأنواع العديدة الأخرى. وقد لُحِظت هذه الحقيقة وسُجلت طوال الوقت وهي بالفعل مثيرة للدهشة.
وقد كتب عالم المستحاثات البشرية الفرنسي باسكال بيك Pascal Picq: أحد الأسئلة الكبرى في نظرية التطور هو: كيف تظهر أنواع وسلالات جديدة؟ فيما يدعى بـ التطور الكبروي، وفي هذه النقطة الأساسية تواجه النظرية الاصطناعية مشكلة عويصة. ذلك لأن التطور الصغروي يعمل ببطء وبتدرج عبر الأجيال. والنظرية الاصطناعية تدافع عن الفكرة العزيزة لداروين حول التطور البطيء والتدرجي، وهو ما نسميه بـ نظرية تطور السلالات التدريجي Phyletic gradualism. فالطبيعية لا تقفز! حيث لا يمكن الانتقال من نوع إلى آخر إلا بعد سلسلة طويلة مستمرة من التطور الصغروي. وهذه الفكرة تثير العديد من الإشكاليات الحقيقية، خاصة بالنسبة للسلالة البشرية، ذلك لأننا كلما وجدنا حفريات أكثر، أصبحنا أكثر عجزًا عن تحديد الفوارق بين الأنواع،وبكل صراحة، مُذْ قام تشارلز داروين بنشر كتابه (أصل الأنواع) ، أحرزت نظرية التطور تقدمًا هائلة، ولكن مع معضلة كبرى: نشوء أنواع جديدة، وهو ما نسميه الانتواع Speciation.
وبتعبير آخر، حتى نعيد صياغة ما قاله بيك بوضوح، بعد مئة وخمسين عامًا من “التقدم الهائل” في نظرية التطور، تُشكّل فكرة نشوء أنواع جديدة مشكلة عويصة بالنسبة للآلية الداروينية. وهذا هو بالتحديد موضع الاعتراض الحالي الذي يتبناه العلماء المؤمنون بالخلق.
فشل تفسير التطور بالقفزات:
ابتكر ستيفن جولد Stephen Gould ونايلز إلدريدج Eldredge Niles وستيفن ستانلي Steven Stanley وآخرون آلية تطورية تسمى “نظرية التوازن النقطي” Punctuated equilibrium (التطور بالقفزات)، حيث تهدف بالتحديد لسد غياب الأدلة الأحفورية على التطور؛ ووفقًا لهم، فإنه لم يحدث أي شيء غريب في حياة الأنواع لملايين السنين؛ وهي فترة الركود أو التوازن… وبعد ذلك، وبشكل مفاجئ، انعزل بعض أفراد نوعٍ ما في أطراف المنطقة الجغرافية التي يعيشون فيها ومروا بتطور سريع حتى أصبحوا نوعًا جديدًا. حيث تتكاثر هذه الأنواع وتبقى بلا تغير لملايين السنين؛ وبالتالي، لا بد أن يسفر هذا عن سجل أحفوري بلا “حلقات مفقودة”. ولكن هذه النظرية ليست أكثر إقناعًا من الداروينية؛ ذلك لأنها لا تزال تتحدث عن انتواع Speciation إلا أنه متسارع. واليوم، يدافع بعض التطوريين أمثال باسكال بيك عن هذه النظرية.
الختام
في هذه المقالة الوجيزة، أردنا وضع النظرية الاصطناعية للتطور تحت مجهر الحقائق الملاحظة. فعند الدراسة المنهجية والمتعمقة للحفريات، تبرز لنا ثلاثة أشياء:
الغياب المنظم للأشكال الوسيطة، التي تشير بما لا يدع مجالًا للشك إلى الانفصال بين الأنواع المختلفة من نباتات وحيوانات.
التعقيد الواضح لجميع الحفريات المكتشفة، والذي يتحدى فكرة تطور أشكال بسيطة لأشكال معقدة.
استقرار الأنواع الملحوظ على مر الزمان.
هذه المعلومات تتحدى الاعتقاد السائد بأن الحفريات شاهدة على التطور. فبدلًا من رؤية الأشكال الوسيطة في حقول الحفريات نرى كل نوع، وكل فئة، وكل فصيل – حيواني أو نباتي – يبدو مختلفًا – بشكل مفاجئ- ومميزًا عن بقية الأنواع الأخرى، بلا أشكال وسيطة تربطه بها.
رأينا أيضًا الآليتين المفروضتين للنظرية الاصطناعية للتطور، وهما الطفرات الجينية المتراكمة على مدى فترات طويلة، والانتخاب الطبيعي الذي يتحكم بهذه الطفرات. إلا أن هاتين القوتين – أو عوامل التطور، وهما الصدفة مع الوقت-، عاجزتان عن تفسير الانتواع، وتفسير ظهور أعضاء جديدة.
كيف يمكننا أن نفهم ما يقوله جودنوت- بثقة كبيرة- أنه “بالنسبة لجميع المختصين في علم الحفريات، وكما هو الحال بالنسبة للمنهجيين الدارسين لعلم الوراثة العرقي الجزيئي Molecular phylogenetics، فإن التطورَ – كالتاريخ- حقيقةٌ ثابتةٌ بلا شك”؟
والجواب ببساطة وباختصار: أن الخيال الواسع قد سبق الدقة العلمية. لذلك أصحبت الفكرة الداروينية عقيدةً نمت وترعرعت وفرضت نفسها رغم أنف الحقائق العلمية؛ولقد كان البروفيسور ويليام ر. تومسون William R. Thompson محقًا عندما أكد، في تقديمه لكتاب أصل الأنواع (طبعة عام 1956) حيث الذكرى السنوية لداروين، على “أن قبول الداروينية قد صاحبه انخفاض في النزاهة العلمية”. ويستطرد قائلًا: “إنه لمن الغريب أن يدافع علماء عن عقيدة لا يستطيعون أن يحددوها علميًا ولا أن يعرضوها بدقة علمية، وإن محاولتهم الحفاظ على رصيدها المجتمعي من خلال القضاء على الانتقادات وإزالة الصعوبات لهو أمرٌ غير طبيعي وغير مرغوب به في العلم”.
ولا يوجد تلخيص كالذي قدمه بول يموان Paul Lemoine، البروفيسور السابق والمدير الحالي في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في فرنسا: “التطور ضربٌ من العقائد التي لم يعد يؤمن كُهَّانها بها، لكنهم يحافظون عليها من أجل شعبهم. وهذا يتطلب شجاعة للبوح به؛ حتى يتمكن رجال الجيل القادم من توجيه أبحاثهم بطريقة أخرى”.
يمكن للقارئ الكريم الاستزادة حول هذه القضية من خلال مطالعة المقالات التالية:
من إنسان النياندرتال إلى رَجُل بلتداون.. أساطير التطور تنكشف!
التطور اللادرويني.. في الاعتراف به إخماد للفتنة أم تأجيجٌ لها؟!
- المصدر: بتصرف يسير عن موقع أثارة