عندما يسلك الإنسان سلوكاً أخلاقيّاً، بالمعنى الرحب للأخلاق والقائم أساساً على حرية الإنسان واستقلال روحه وضميره وسعيه نحو السمو دون أن يحصر نفسه في صورة تاريخية أو ثقافية محددة لما هو أخلاقي فهو أيضاً ينطلق من رؤية تركيبية للوجود، رؤية لا تفسِّر الإنسان وإنما تخلقه. وهذا هو الفرق بين الدين والعلم…
(مقتطف من المقال)
عبد الحليم عباس
يتكلم هذا المقال من داخل السياق الإسلامي ولكن بالمعنى الحضاري للكلمة وليس بالمعنى اللاهوتي. والمقصود بالدين هُنا هو الإسلام كما تجسّد -من خلال الإرادة- في اللُّغة والتاريخ.
الدين بهذا المعنى يُمكن النظر إليه كإرادة لخلق رؤية للعالم والوجود، وهذه الرؤية ليست وصفية تهدف إلى تفسير الوجود، فهي لا تصوِّر الوجود كما هو، وإنما تُصوِّره كما ينبغي أن يراه ويشعر، وينفعل به الإنسان.
فالدين لا يقول هذا هُو العالم وهذا هو الإنسان، وبدلاً من ذلك يقول هكذا يجب أن نشعر بالعالم، وهكذا يجب أن يكون الإنسان. إنه لا يصف صورة العالم بل يصنعها، وهُنا تكمُن الإرادة.
السماوات والأرض والجبال والأحجار والأشجار والطيور وكل الموجودات، في الرؤية الدينية للعالم هي أشياءٌ لها شعورٌ ديني بالوجود. فهي أيضاً تشعر بالأُلوهية السارية في كل شيء وتنفعل بها.
الإنسان.. وخلق الانفعال الديني بالوجود!
هذه الرؤية الانفعالية بالعالم أبعد ما تكون عن التفسير والوصف بالمعنى الموضوعي للكلمة، بل هي أيضاً نوعٌ من التسبيح والصلاة، إنها رؤية تجسّد إرادة الانفعال الديني بالوجود، وتدعو لها في الوقت نفسه، أو قُل تخلقها في الإنسان.
و كذلك الإنسان في هذه الرؤية، هو ذلك المخلوق المميز بالروح والحُرية والعقل، وأيضاً مُميّز بالمسئولية والمصير.. لا يبدأ وجوده في هذا العالم ولا ينتهي فيه.. له صورة وقصة فريدة ومصير فريد أيضاً. هكذا تقضي إرادة الخلق الديني أن نشعر بالإنسان. وهذا أيضاً ليس وصفاً تفسيرياً بقدر ما هو مثال الإنسان كما يجب أن يكون عليه: الإنسان المتجاوِز للمادة، من خلال الروح والإرادة.
و إذا كانت الأشياء، وفقاً للرؤية الدينية الأكثر روحانية، تختبر الأُلوهية وتنفعل بها على نحو سلبي. فإن الإنسان هو مستودع السر الإلهي العظيم، لا ينفعل سلباً مثل الأشياء وإنما تتجسد فيه ومن خلاله كلمات الله، فهو يتكلم مُردداً صوت الله المنبعث من أعماق الوجود، في أعماق الروح الإنسانية.
وهُنا تبلغ الرؤية الدينية للوجود أقصى مداها، حينما تصوِّر وتجسِّد كلمات الخالق في اللُّغة. وهي هُنا أيضاً تفعل نفس الشيء: تصوِّر وتشبِّه وتُمثِّل وترمُز وتشير، لا تصف أو تفسِّر. وهي هُنا أبعد ما تكون عن منهج البحث والتفسير العلمي أو الفلسفي، إنها رؤية دينية ذات طابع خاص وفريد.
من الخطأ مقابلة أو مقارنة هذه الرؤية الدينية بالرؤية العلمية الوصفية التفسيرية الحديثة. والأكثر خطئاً هو العمل على إعطاء تفسير علمي لها، لأنها لا تنتمي الى هذا المجال أساساً، ولأن “العلم” بالمعنى المعاصر لهذه الكلمة والذي يُعنى بوصف الظواهر وتفسيرها بواسطة العقل والتجربة لم يكن قد وُجد إلا حديثاً. ولنفس السبب لا يُمكن قبول وصف البعض للرؤية الدينية للعالم على أنها محاولة بدائية لفهم وتفسير العالم، لأن الرؤية الدينية هي انفعال معنوي وروحي بالوجود، وهي تستهدف الحساسية الدينية الإنسانية في الأساس، وليس تقديم نظرية حول كيفية عمل العالم والأشياء.
تسبيح الكون وعظمة الخالق
فالإنسان عندما يشعر بالكون مسبحاً بعظمة الخالق، فهو هُنا لا يمارس العلم والمعرفة ولكنه يتعبّد. وبالطبع من الممكن أن يشعر العُلماء الأكثر تجريبيةً وعقلانية أنهم يتعبدون الخالق أيضاً من خلال البحث العلمي التجريبي.. يمكنهم أن يعملوا على التقرُّب إليه بعقولهم ولكن لا يُمكنهم أن يشعروا مثلاً بالحجارة تهبط من خشية الله إلا من داخل الدين.. لا يُمكنهم الشعور بسجود النجم والشجر وتسبيح الطير والرعد إلا حينما يكونون هُم أيضاً في سجود وتسبيح وصلاة، حينما يمارسون الشعائر الدينية، أي داخل الدين.
و كذلك عندما يسلك الإنسان سلوكاً أخلاقيّاً، بالمعنى الرحب للأخلاق والقائم أساساً على حرية الإنسان واستقلال روحه وضميره وسعيه نحو السمو دون أن يحصر نفسه في صورة تاريخية أو ثقافية محددة لما هو أخلاقي (هذا الاستطراد مهم وضروري لأن الأخلاق هي من أكثر الأشياء التي يُساء فهمها في الفكر الديني) فهو أيضاً ينطلق من رؤية تركيبية للوجود، رؤية لا تفسِّر الإنسان وإنما تخلقه. وهذا هو الفرق بين الدين والعلم.
لقد جرى ويجري استخدام بعض النصوص الدينية المتعلقة بالكون والطبيعة على أنها وصفٌ وتفسيرٌ علمي للوُجود بالمعنى الوضعي لكلمة علم، ويجري تأويل بعضها لتتماشى مع النظريات العلمية الحديثة، وقد ذهب البعض أبعد من التأويل ونادوا بأخذ هذه النصوص على أنها الحقيقة النهائية والتي يجب أن تؤسس عليها المعرفة العلمية البشرية، والبعض الآخر يدعو لأخذها كفرضيات علمية والعمل على تحقيقها لبناء نظريات علمية.
وفي كل هذه الحالات يتم تجريد هذه النصوص الدينية من حمولتها المعنوية، من رمزيّتها، ومن وظيفتها في مخاطبة الحساسية الروحية للإنسان، لتصبح عبارة عن “حقائق” علمية، الأمر الذي يجعلها -افتراضاً- في موضع النقد والاختبار بواسطة منطق العلم الوضعي وأدواته. ولكن الذي يحدث عادةً هو أن هذه التأويلات لا ترقى إلى مستوى المناقشة العلمية أساساً. ولقد نبه كثير من المفكرين الدينيين وحتى الوُعاظ منهم الى خطل هذه المحاولات وبؤسها.
ونفس الشيء يتم مع التصوُّر الأكثر رمزيةً وتجريداً، تصور الأُلوهية الذي تقدمه الرؤية الدينية، هو أيضاً يتم تصنيمه بحيث يصبح متعيّناً محدداً ومتحجِّراً، ويفقد هو أيضاً بالتالي قدرته على الإشارة والرمز إلى ما وراء اللُّغة والكلمات، بل تصبح الكلمات هي نفسها المُطلق الذي كانت قد صيغت لتشير إليه. ولكن الروح الحُرة للإنسان دائماً أكبر من أن تسجنها اللُّغة والرموز أو الصُّوَر والأفكار، فضلاً عن الأوثان والأوهام.
المصدر: بتصرف يسير في المتن والعنوان عن موقع مدونات الجزيرة